بعد ان نشرنا امس وأول امس الجزء الاول والثاني من دراسة الكاتب يوسف عبد العاطي لمجموعة الشاعر الراحل الحبيب الهمامي " رضي القلب عنها " ولاحظ اصرار الشاعر على أن لا يكون ناظمًا لعبارات تستدعي الدّهشة وعلى السعي إلى بناء صورة تُربك القارئ و تدفعه إلى التورط في صياغة مشهد او احساس يمنحه فرصة ملامسة روعة الشّعر. ننشر اليوم الجزء الثالث والأخير من هذه الدراسة: قبل الوقوف عند نماذج مختلفة ضمّتها قصائد «رضي القلب عنها » أرى أنّه من المفيد الإشارة إلى تلك القصيدة التي استشهد بهاالدّكتور عبد العزيز مقالح في دراسته الصّادرة منذ قرابة الأربعين سنة و المختارة من (لغة الأغصان المختلفة)تاركًا مهمّة المقارنة بينها و بين القصائد الأخيرة إلى القرّاء محاولًا تقديم صورة أوضح عن ملامح الكتابة الشعرية لدى الحبيب الهمّامي. حملت هذه القصيدة عنوان « أسمّيك نصفي » و جاء فيها: ( أسمّيك نصفي و أترُك ذاكرتي تتزوّج ... حُسنَكِ لكن حُسن النّساء بخار فهل تتشرّد ذاكرتي عندما يتبخّر حُسنُكِ ذات نهار؟ أسمّيك نصفي و أترك عمري يضاجع عُمرك كي يتولّد عُمر أسمّيه ...مملكة الاخضرار) ( ص: 120) الأكيد أنّ التّفاعل مع مثل هذه الصّور و كذلك البناء الشّعري لها سيختلف الحكم عنها من شخص إلى آخر حسب الأذواق، لكنّ الثّابت وأنّ ما كان يشغل الشّاعر طيلة سنوات إبداعه هو التّميّز و النّجاح في إحداث الدّهشة لدى القارئ، و هو ما سأحاول إظهاره من خلال نماذج مختارة. انطلقت أشعار مجموعة « رضي القلب عنها » بومضة حملت عنوان( أنفاسها) و كانت كما يلي: ( هذه هي الحقيقة أنفاسها موسيقى) ( ص : 9) و رغم التّكثيف في استعمال الكلمات أرى أنّ الشّاعر نجح في اختزال صورة غزليّة تكون معبّرة بدقّة عن الحياة بصفة عامّة حيث أنّالموسيقى تكاد تُلخّص كلّ العالم بتنوّع إيقاعاتها و اختلاف موازينها لتكون نبض الأنفاس الّتي تُؤكّد عدم انقطاعنا عن ممارسة الفعل فيهذا الواقع. و أرى أنّ هذا الرّأي يتأكّد أكثر بالوقوف عند آخر قصيدة في المجموعة و الّتي حملت عنوان (و لكن) و جاء بناؤها كما يلي: ( شبابي تمكّنتُه بعد جُهد جهيد بذلتُ فيه خيبات شتّى و طعنات حتّى و أنا في الدّنيا وحيد شبابي الآن عاد محتفلًا و لكن دون رصيد) ( ص : 117 / 118 ) فاختزال الماضي و الحنين إلى الشّباب الّذي انتهى زمانه يُشرّع لفتح أبواب الاحتفال رغم الخيبات و الانكسارات و عدم توفّر الأرصدةالإيجابية في حساب الحياة. و هو ما يُؤكّد لنا ميل الشّاعر إلى الأمل و انتصاره للفرح بالرّغم من تكرّر و تنوّع المحن. و ربّما تكون الموسيقىالّتي تُحدثها أنفاسها هي نبراس تجديد احتفال الشّباب. و هي محاولة أولى في البحث عن الخيط الرّابط بين الومضة الأولى و الأخيرة فيالمجموعة و الّتي تدفعنا إلى عدّة تأويلات أخرى. و سأحاول من خلال النّماذج المختارة التّوقّف عند بعض المواضيع الّتي تكرّر ذكرها بصياغات مختلفة من ذلك مثلًا الحديث عن البيت الّذيجاء في سياقات مختلفة. فنقرأ في قصيدة (بيت 1): ( بنيتُ بيتًا منذ سنوات يعرفه اليتامى و عابرو السّبيل و المشرّدون و الأغراب بيتي هو الوحيد في المدينة مفتوح من كلّ الجهات بلا نوافذ و لا أبواب) ( ص : 22 / 23) و نفهم من خلال هذه القصيدة الكرم الّذي يسكن الشّاعر ليكون بيته مُشرعًا أمام اليتامى و عابري السّبيل و المشرّدين، و لي أن أتساءلفي هذا المجال: هل كان البيت الشّعري للحبيب الهمّامي مفتوحًا أمام المهمّشين في هذه الأرض؟ الأكيد و أنّ الإجابة عن هذا السّؤال لا تكون أبدًا بالنّفي أو الإيجاب، لأنّ ما يهمّني هو الوقوف على مميّزات الانتصار للقضايا العادلةفي الأشعار و هو ما أحاول التّلميح له، لأنّ الأمر يتطلّب بحثًا معمّقًا يهمّ كامل المدوّنة الابداعية لدى الحبيب الهمّامي، و ربّما يحصل هذالاحقًا. و مواصلة لموضوع البيت نقرأ قصيدة(بيت 2) و الّتي كانت كما يلي: ( في شبابي الأوّل سكنت بيتًا هرما للأسف بلا نوافذ و لا أبواب و لا سقف) ( ص : 56) و لأنّنا بصدد مطالعة كتاب إبداعي أرى أنّ هذا البيت لا يمكن إلّا أن يكون شعريًّا حتّى و إن بُني في التّراب، و أرى أنّ القصيدةالثّالثة و الّتي حملت عنوان (بيت هرم) تُؤكّد لي صحّة التّأويل: ( قضيتُ عامًا من شبابي المبكّر في بيت هرم جدرانه من العشب الأخضر بابه موصد لا يُفتح لم ينفتح منذ ألف شهر فادخلوا البيت آمنين إنّما من السّطح) ( ص : 74 / 75) و لأنّ الشّعر غالبًا ما يرفض التّفسير أرى أنّ الشّاعر و بإصراره على أن تكون الأبواب و النّوافذ مفتوحة ما كان يبحث إلّا عن دهشةالقارىء قصد التقاط مفاتيح الأمل و استيعاب مفاهيم الصّور الشّعرية القادرة على بعث الدفء في النّفوس. كما حضرت صورة النّادل أو النّادلة أكثر من مرّة في القصائد و بتعابير مختلفة، حيث نقرأ قصيدة ( كانْ كْتِبْ): ( قالت لي نادلة المقهى سيّدي ماذا تشرب قُلتُ محتفلًا أشربُكِ أنتِ « كَانْ كْتِبْ ») ( ص : 28) و هنا نجد أنّ الشّاعر اختار التّعويل على الاستعمال الدّارج للعبارة مع استبطان جميع مدلولاتها البلاغية و هي من المرّات القليلة الّتياستغلّ فيها بعض الكلمات العامّيّة مُحاولًا التّركيز خاصّةً على بعث الدّهشة في نفس القارىء. أمّا في قصيدة (قهوة) فقد تحدّث عن النّادل المذكّر و في حدث مختلف، حيث يقول: ( سألني النّادل سيّدي ماذا تشرب قلتُ كوب شاي أخضر بعد ساعة من الانتظار أسعفني بقهوة و نسي السّكّر) ( ص : 36) فهل نفهم من السّياق السّطحي للمشهديّة انتصار الشّاعر للمرأة في هذه المهنة؟ خصوصًا و نحن نجده يعود بعد ذلك إلى التّغزّل بالنّادلة في قصيدة(باردة): ( طلبتُ من نادلة المقهى قهوة بالموسيقى لبّت و من رشفة واحدة رحتُ أرقص و أغنّي أحبّكِ ... أحبُّك... أيّتها الجميلة الباردة) ( ص: 109) و لي أن أتساءل في هذا المجال، ألا يُمكن أن تكون النّادلة هي الحبيبة في المطلق و الّتي لا تتأخّر أبدًا في تلبية نداء المحبوب خصوصًا حين يرتبط الطّلب بالموسيقى لنجده يرقص و يغنّي ثمّ يتهادى ليبوح بالحبّ. أصل الآن إلى تقديم بعض الومضات القصيرة و الّتي شعرت أنّها تساهم في تقريب الهيكل العام للكتابة الشّعرية لدى الحبيبالهمّامي. و أنطلق في هذه المختارات بقصيدة(ماذا يحدث) : ( ماذا يحدث هذه الأيام كلّما تذكّرتُك أنام) ( ص :45) ثمّ نقرأ قصيدة (نظرة) : ( احفظوا هذه المقولة أحبّك من النّظرة قبل الأولى) ( ص : 50) أمّا قصيدة (حكمة) فجاء فيها: ( هذه حكمة فادحة ما نسيتُه غدًا أتذكّرُه البارحة) ( ص : 67) و في تلخيص لدرجة الحب نقرأ في قصيدة(حب): ( كلّ ثانية أحبُّك ألف عام هذا ما يُمكنُني و السّلام) ( ص: 68) كما نقرأ في موقع لاحق قصيدة(مدى الحياة) و الّتي جاء فيها: ( فات الّذي فات و نسينا نصف الذّكريات و سؤالي يبقى كيف نسيتُ تمامًا أنّني أحبّك مدى الحياة) ( ص : 80) و لأنّ مظاهر التّعبير عن الحبّ الصّادق و العميق كانت متعدّدة و مختلفة في البناء سأنهي هذه النّماذج بقصيدة (غياب) و الّتي كانت مُختزلة و عميقة حيث يقول: ( لوجود شبهة غياب ما إن أصل باب بيتها و قبل أن أطرق تتولّى أنفاسي فتح الباب) ( ص : 103) و أرى أنّ النّماذج و مهما تعدّدت لا يمكنها أبدًا ثنينا عن مطالعة قصائد المجموعة كاملة لما توفّر داخلها من عمق في المقاصد و قُدرةعلى تحريك السّواكن فينا بالإرباك و الإدهاش سواء من خلال الصّورة أو العبارات المُستعملة، و حسبي في هذه القراءة جلب انتباه القارىءإلى تجربة شعرية مهمّة غادرنا صاحبها منذ أسابيع قليلة متمنيًا الرّحمة للحبيب الهمّامي.