ولد محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور، الشهير بالطاهر بن عاشور، بتونس في (1296 ه = 1879 م) في أسرة علمية عريقة تمتد أصولها الى بلاد الأندلس، وقد استقرت هذه الأسرة في تونس بعد حملات التنصير ومحاكم التفتيش التي تعرض لها مسلمو الأندلس. وقد نبغ من هذه الأسرة عدد من العلماء الذين تعلموا بجامع الزيتونة، تلك المؤسسة العلمية الدينية العريقة التي كانت منارة للعلم والهداية في الشمال الافريقي، كان منهم محمد الطاهر بن عاشور، وابنه الذي مات، الفاضل بن عاشور. وجاء مولد الطاهر في عصر يموج بالدعوات الاصلاحية التجديدية التي تريد الخروج بالدين وعلومه من حيز الجمود والتقليد الى التجديد والاصلاح، والخروج بالوطن من مستنقع التخلف والاستعمار الى ساحة التقدم والحرية والاستقلال، فكانت لافكار جمال الدين لأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا صداها المدوي في تونس وفي جامعها العريق، حتى ان رجال الزيتونة بدؤوا باصلاح جامعهم من الناحية التعلمية قبل الجامع الأزهر، مما أثار اعجاب الامام محمد عبده الذي قال: «إن مسلمي الزيتونة سبقونا الى اصلاح التعليم، حتى كان ما يجرون عليه في جامع الزيتونة خيرا مما عليه أهل الأزهر». وأثمرت جهود التجديد والاصلاح في تونس التي قامت في الأساس على الاهتمام بالتعليم وتطويره عن انشاء مدرستين كان لهما أكبر الاثر في النهضة الفكرية في تونس، وهما: المدرسة الصادقية التي أنشأها الوزير النابهة خير الدين التونسي سنة (1291 ه = 1874 م) والتي احتوت على منهج متطور امتزجت فيه العلوم العربية باللغات الاجنبية، إضافة الى تعليم الرياضيات والطبيعة والعلوم الاجتماعية. وقد أقيمت هذه المدرسة على أن تكون تعضيدا وتكميلا للزيتونة. أما المدرسة الأخرى فهي المدرسة الخلدونية التي تأسست سنة (1314 ه = 1896 م) والتي كانت مدرسة علمية تهتم بتكميل ما يحتاج اليه دارسو العلوم الاسلامية من علوم لم تدرج في برامجهم التعليمية، أو أدرجت ولكن لم يهتم بها وبمزاولتها فآلت الى الاهمال. وتواكبت هذه النهضة الاصلاحية التعليمية مع دعوات مقاومة الاستعمار الفرنسي، فكان اطروحات تلك الحقبة من التاريخ ذات صبغة اصلاحية تجديدية شاملة تنطلق من الدين نحو اصلاح الوطن والمجتمع، وهو ما انعكس على تفكير ومنهج رواد الاصلاح في تلك الفترة التي تدعمت بتأسيس الصحافة، وصدور المجلات والصحف التي خلقت مناخا ثقافيا وفكريا كبيرا ينبض بالحياة والوعي والرغبة في التحرر والتقدم. حفظ الطاهر القرآن الكريم وتعلم اللغة الفرنسية، والتحق بجامع الزيتونة سنة (1310 ه = 1892 م) وهو في ال14 من عمره، فدرس علوم الزيتونة ونبغ فيها، وأظهر همة عالية في التحصيل، وساعده على ذلك ذكاؤه النادر والبيئة العلمية الدينية التي نشأ فيها، وشيوخه العظام في الزيتونة الذين كان لهم باع كبير في النهضة العلمية والفكرية في تونس، وملك هاجس الاصلاح نفوسهم وعقولهم فبثوا هذه الروح الخلاقة التجديدية في نفس الطاهر، وكان منهجهم أن الاسلام دين فكر وحضارة وعلم ومدنية. ويعد الطاهر بن عاشور من كبار مفسري القرآن الكريم في العصر الحديث، ولقد احتوى تفسيره «التحرير والتنوير» على خلاصة آرائه الاجتهادية والتجديدية، اذ استمر في هذا التفسير ما يقرب من 50 عاما، وأشار في بدايته الى ان منهجه هو ان يقف موقف الحكم بين طوائف المفسرين، تارة لها وأخرى عليها «فالاقتصار على الحديث المعاد في التفسير هو تعطيل لفيض القرآن الكريم الذي ما له من نفاد»، ووصف تفسيره بأنه «احتوى أحسن ما في التفاسير، وأن فيه أحسن مما في التفاسير».