: وفي خضم تفاعل بديع من القراء مع سلسلة حلقات كتبتها في تخليد ملاحم فكرية وسياسية وحضارية لسلسلة من رواد النهضة العربية والاسلامية في تونس , وفي أجواء أعادت للذاكرة خيطا منقطعا مع رواد أريد لهم التغييب عن تاريخنا وثقافتنا واهتماماتنا في حقول الفعل والنضال .., في تلكم الأجواء كان لزاما على الفكر والأنامل الراقنة أن يشرئبا متطلعين الى شخصية أخرى طبعت ملاحم الريادة في موضوعات الاصلاح التربوي والاجتماعي وأنماط تفعيل الذهن وتحرير العقل وتنوير البصيرة والارادة ... كان النصف الأول من القرن العشرين حافلا على الصعيد العربي والمغاربي وعلى صعيد دول "العصبة الاسلامية" بأحداث وتطورات صادمة في مواجهة واقع الانحطاط والاحتلال .., وقد توزعت الجهود يومها بين الجماهير والرواد في محاولات احياء اتجهت الى مناحي السياسة والثقافة ومناهج التربية والتعليم وواجهات تنظيم الفعل الاجتماعي أمام هول موجات الفقر والمرض والظلم .. في ذلكم المناخ الحافل بالولادات الفكرية والجمعوية والنقابية والسياسية , ظهر عالم تونسي فذ اصطدم بتعطيل حركة الاجتهاد وسواد واقع التقليد وفصل الاسلام عن ضرورات روح العصر وتحديات واقع الحداثة ... انه الشيخ العلامة محمد الطاهر بن عاشور , الذي سبقت ولادته الفيزيولوجية ظهوره على المسرح الفكري والثقافي والتربوي والتعليمي بحوالي عشرين سنة من عمر أمد الله فيه تسعين سنة في الأرض ... وفيما يلي نلخص ماأورده الباحث مصطفى بن عاشور في حق شخصية حلقة اليوم : فقد ولد الشيخ الطاهر بن عاشور بتونس العاصمة سنة 1879 ميلادية , وكان الرجل من سليلة أندلسية مهاجرة جلبت معها لتونس أيام محاكم التفتيش الاسبانية والأوروبية خيرة خبراتها وعسيلة نبوغها وابداعها ... ومن تلكم السلالة الجينية عرفت تونس علمين من أبرز أعلامها وروادها وهما العاشورين : أي الشيخ العلامة محمد الطاهر بن عاشور الأب وابنه العلامة الفاضل بن عاشور .. وقد أتم الطاهر بن عاشور حفظ القرآن الكريم، وتعلم اللغة الفرنسية، والتحق بجامع الزيتونة سنة (1310ه = 1892م) وهو في الرابعة عشر من عمره، فأظهر نبوغًا منقطع النظير. تخرج الطاهر من الزيتونة عام (1317ه = 1896م)، والتحق بسلك التدريس في هذا الجامع العريق، ولم تمض إلاّ سنوات قليلة حتى عين مدرسًا من الطبقة الأولى بعد اجتياز اختبارها سنة (1324ه = 1903م). في تلكم الفترة التي تخرج فيها الشيخ الطاهر بن عاشور من الزيتونة والتحق بها مدرسا من الطبقة الأولى , كان العالم الاسلامي يموج بدعوات الاصلاح والنهضة والخروج من حالات التخلف والانحطاط , فقد جاء على تلكم الأيام محمد عبده زائرا لتونس , وعاين محاولات حثيثة لاصلاح المنظومة التعليمية الزيتونية بها , فكان أن قال قولته الشهيرة : "إن مسلمي الزيتونة سبقونا إلى إصلاح التعليم، حتى كان ما يجرون عليه في جامع الزيتونة خيرًا مما عليه أهل الأزهر" . كانت يومذاك جهود اصلاح التعليم تتجه الى اصلاح مناهج التعليم بالزيتونة كما العناية بتأسيس وتطوير مدرستين حديثتين عملتا على مؤازرة الجهد الذي حفظته الزيتونة لتونس والعالم العربي والاسلامي على مدار حوالي عشرة قرون .. وقد أثمرت هذه الجهود الاصلاحية ولادة وظهور : المدرسة الصادقية التي أنشأها الوزير النابه خير الدين التونسي سنة (1291ه = 1874م) , اذ احتوت على منهج متطور امتزجت فيه العلوم العربية باللغات الأجنبية ، إضافة إلى تعليم الرياضيات والطبيعة والعلوم الاجتماعية. وقد أقيمت هذه المدرسة على أن تكون تعضيدًا وتكميلاً للزيتونة. أما المدرسة الثانية فهي المدرسة الخلدونية التي ظهرت للوجود سنة (1314ه = 1896م) والتي كانت مدرسة علمية تهتم بتكميل ما يحتاج إليه دارسو العلوم الإسلامية من علوم لم تدرج في برامجهم التعليمية، أو بتعميق دراسة مباحث ومواد وقع اهمالها في برامج التعليم الزيتوني. الشيخ الطاهر بن عاشور , ورغم تخرجه من رحاب الزيتونة فانه لم يكن بعيدا عن أجواء الصادقية , فقد عهد اليه بالتدريس بها سنة 1900م ، وكان لهذه التجربة المبكرة في التدريس بين الزيتونة والصادقية أثرها في حياته، إذ فتحت وعيه على ضرورة تقليص الهوة بين تيارين فكريين ما زالا في طور التكوين، ويقبلان أن يكونا خطوط انقسام ثقافي , فكري وسياسي في المجتمع التونسي، وهما: تيار الأصالة الممثل في الزيتونة، وتيار المعاصرة الممثل في الصادقية، ومن أجل ذلك دون رؤياه في الغرض في كتاب نفيس حمل عنوان "أليس الصبح بقريب؟ وفي مناخ عرفت فيه تونس احتكاكها الاعلامي والثقافي والفكري مع بلدان المشرق العربي والاسلامي , كان الشيخ الطاهر قريبا من الشيخ محمد عبده الذي عرفه عن كثب حين زيارته لتونس , بل انه لقب الشيخ بن عاشور يومذاك ب"سفير الدعوة في تونس" . كتب الشيخ بن عاشور أيضا في نشرية المنار , وكان قريبا من مصدرها الرائد الشيخ محمد رشيد رضا .., وقد انعكس قربه من عبده ورضا على رؤيته للاصلاح اذ استند يومذاك على رؤية تربوية اجتماعية دونها في كتابه - أصول النظام الاجتماعي في الاسلام - . كان بن عاشور مؤمنا شديد الايمان بضرورة اصلاح مناهج التعليم لتجاوز حالة الانحطاط والتخلف التي تسربت الى ديار العالم العربي والاسلامي , وقد رأى أن تغيير نظام الحياة يتطلب تبدل الأفكار والقيم العقلية، وهو مايستدعي في نظره تغيير أساليب التعليم, ومن أجل ذلك فقد سعى إلى إيجاد تعليم ابتدائي إسلامي في المدن الكبيرة في تونس , على غرار ما فعل الأزهر في مصر، غير أنه قوبل بعراقيل كبيرة. ويشخص بن عاشور الخلل والفساد اللذين أصابا التعليم الإسلامي بالحديث عن : فساد المعلم، وفساد المؤلفات، وفساد النظام العام , ومن ثمة فقد أعطى الأولوية لإصلاح العلوم والتآليف . وضمن هذا السياق تم اختياره في عضوية لجنة اصلاح التعليم الزيتوني الأولى سنة 1910 م وفي لجنتها الثانية سنة 1924 م , ثم شيخا لجامع الزيتونة سنة 1932 م لكنه سرعان مااستقال من المشيخة بعد سنة ونصف بسبب ماأحيط به من عراقيل في مشروعه لاصلاح منظومتها التعليمية . واللافت في سيرة العلامة الطاهر بن عاشور , هو تبنيه لخيار التجديد والاصلاح من خلال المنظومة الاسلامية , ومن ثمة فقد كانت آراؤه وكتاباته ثورة على التقليد والجمود وثورة على التسيب والانزلاق الحضاري .. كتب الشيخ بن عاشور رؤيته التجديدية وصبر عليها خمسين سنة قضاها في تأليفه لتفسيره الضخم " التحرير والتنوير " الذي ضمنه خلاصة آرائه الاجتهادية , وأشار في بدايته إلى أن منهجه هو أن يقف موقف الحكم بين طوائف المفسرين، تارة لها وأخرى عليها : "فالاقتصار على الحديث المعاد في التفسير هو تعطيل لفيض القرآن الكريم الذي ما له من نفاد"، ووصف تفسيره بأنه "احتوى أحسن ما في التفاسير، وأن فيه أحسن مما في التفاسير . وقد شرح الشيخ الطاهر بن عاشور أسباب تخلف علم التفسير بعناية كثير من المفسرين بكثير من النقل حتى ولو كان ضعيفا , واجتناب الرأي حتى ولو كان صوابا "لأنهم توهموا أن ما خالف النقل عن السابقين إخراج للقرآن عما أراد الله به", ومن ثمة فقد أصبحت في نظره كتب التفسير عالة على كلام الأقدمين، ولا همّ للمفسر إلا جمع الأقوال، وبهذه النظرة أصبح التفسير "تسجيلا يقيَّد به فهم القرآن ويضيَّق به معناه " . اهتدى العلامة بن عاشور , رحمه الله على ضوء دراسته المستفيضة والمعمقة لعلوم التفسير - خمسين سنة - , الى أهمية التعاطي مع علم أصول الفقه ودوره في توجيه وتطوير حركة الاجتهاد , ولأجل ذلك كتب مؤلفه " مقاصد الشريعة " , وقد أبان فيه بأن علم الأصول هو المنهج الضابط لعملية الاجتهاد في فهم نصوص القرآن الكريم واستنباط الأحكام منه , اذ أن الاختلال في هذا العلم هو السبب في تخلي العلماء عن الاجتهاد , ورأى أن هذا الاختلال يعود إلى توسيع العلم بإدخال ما لا يحتاج إليه المجتهد - التوسع في شروط مالايحتاج اليه الاجتهاد -، اذ أن قواعد الأصول دونت بعد أن دون الفقه، لذلك كان هناك بعض التعارض بين القواعد والفروع في الفقه، كذلك الغفلة عن مقاصد الشريعة . وفي مسيرة الشيخ الطاهر رحمه الله محنتان خرج منهما منتصرا , فالأولى كانت محنة التجنيس حين أصدر المجلس الشرعي لعلماء المالكية سنة 1933 م فتواه بخصوص التجنس , اذ قال المجلس يومذاك بأنه يتعين على المتجنس عند حضوره لدى القاضي أن ينطق بالشهادتين ويتخلى في نفس الوقت عن جنسيته التي اعتنقها، لكن الاستعمار حجب هذه الفتوى، وبدأت حملة لتلويث سمعة هذا العالم الجليل، وتكررت هذه الحملة الآثمة عدة مرات على الشيخ، وهو صابر محتسب ... لقد كان موضوع التجنيس يومها على ضوء قانونه الصادر سنة 1910 م , موضوعا ملتهبا على صعيد الجدل الحاد بين المستعمر والحركة الوطنية , ومن ثمة فقد منع الوطنيون المتجنسين من الدفن في المقابر الاسلامية , وأرادت فرنسا يومذاك استصدار فتوى شرعية من المجلس المالكي تسقط بها مساعي الوطنيين ... كانت فتوى اللجنة الشرعية انذاك شافية وكافية , الا أن الاستعمار الفرنسي عتم عليها وقاد حملة لتلويث سمعة كبير فقهاء تونس ممثلا في الشيخ العلامة بن عاشور .. أما المحنة الثانية فقد كانت أيام الاستقلال وتحديدا سنة 1961 , حين عمد بورقيبة الى دعوة الناس للافطار في شهر رمضان المعظم بدعوى تعطيل الصيام للحراك الاقتصادي ... طلب بورقيبة يومذاك فتوى شرعية من الشيخ بن عاشور بما يتوافق وهواه , وأراد الفتوى على أمواج الاذاعة والأثير , فامتشق الشيخ المصدح وقرأ اية الصيام , ثم قال كلمته الشهيرة " صدق الله وكذب بورقيبة " ... يوم الثاني عشر من أغسطس , سنة 1973 م , أي الثالث عشر من رجب , 1393 ه ,غادر عالم تونس ومجددها ومصلحها الحياة الدنيا ليترك وراءه ثلمة ثقافية وعلمية وتربوية مازالت تونس تصارع جاهدة من أجل ملئ فراغاتها الكبرى , فموضوع اصلاح التعليم ظل مترنحا بين فسخ رموز الحضارة الاسلامية فيه وبين سطو فقه التعبيس والتيئيس عبر الاساءة لمقاصد الشريعة وروحها الناهضة ... التجديد خرج لدى البعض عن أحضان الاسلام واللغة ليعود صناعة غير وطنية مصنعة في محاضن خارجية , والاصلاح بات لدى البعض الاخر سياقا سياسيا محضا دون الالتفات الى أهمية وضعه في سياقه الحضاري العربي والاسلامي , وهو ماسبق لفهمه وشرحه رواد عظام بحجم الثعالبي والطاهر بن عاشور رحمهما الله ... كتبه مرسل الكسيبي* بتاريخ 4 جانفي 2010 *كاتب واعلامي تونسي : [email protected]