رغم أن التجاوزات والمشاكل الحاصلة منذ 2011 إلى اليوم تسببت في حالة غير مسبوقة من تردي خدمات المرفق العام ومن تراجع أداء الدولة في خدمة المواطن والشأن العام في كل المجالات تقريبا، وتسببت في استشراء مظاهر الفساد وسوء التصرف وغياب الحوكمة الرشيدة، إلا أن الدولة عبّرت في السنوات الأخيرة عن رغبة في الإصلاح وفي ترميم ما وقع "هدمه".. غير أن هذه الرغبة اصطدمت بعائق كبير وهو تشتّت الجهود في محاولة إصلاح كل ما فسد في وقت واحد وبشكل متزامن. وهو خطأ كبير وقعت فيه الدولة باعتبار أن إصلاح كل شيء في وقت واحد ووجيز أمر غير ممكن ماليا ولوجستيا وفنيا.. صحيح أن الفساد والإهمال وغياب الحوكمة الرشيدة وسوء التصرف طال أغلب مجالات الشأن العام تقريبا، بدليل ما أصبح يسود من فوضى وارتباك وفساد في مختلف المجالات الحساسة كالتعليم والنقل والصحة والماء والكهرباء والتطهير والبنية الأساسية ومختلف المجالات الاقتصادية، وهو ما تطلب من الدولة التعجيل بفتح عديد الملفات بنية الإصلاح وإنقاذ ما يمكن إنقاذه وتحميل المسؤولية لكل من تورّط في أي تقصير. غير أن جهود الدولة بدت في الأعوام الأخيرة وكأنها مُشتّتة وغير ناجعة، وهو ما تسبب في تأخر الإصلاحات التي ينتظرها المواطن وفي عدم إتمام أي إصلاح حقيقي كامل وشامل في أي مجال من المجالات.. فالدولة مهما بلغت قوتها المالية والبشرية ومهما بلغت فيها قوة الإرادة السياسية للإصلاح والترميم لا يمكنها أن تتحمل أكثر من طاقتها. وهو ما تعاني منه تونس اليوم، لا سيما على الصعيد المالي والفني واللوجستي. حيث بدت جهود الإصلاح والإنقاذ التي طالب بها رئيس الجمهورية أكثر من مرة وكأنها مشتتة بين أكثر من مجال أو قطاع، وبدت الدولة تبعا لذلك عاجزة عن إتمام صلاح حقيقي وكامل في أي مجال من المجالات.. إذ لا يمكن في الآن نفسه إتمام إصلاح شامل في التعليم أو الصحة أو النقل أو في المؤسسات العمومية وخدمات المرفق العام والمنظومة التشريعية والخدمات الإدارية المختلفة.. ولا يمكن في الآن نفسه محاربة الفساد ووضع حدّ للتجاوزات الإدارية أو لظاهرة الاستيلاء على المال العام وغيرها من المظاهر التي نخرت جسد الدولة منذ 2011.. وتحتاج تونس اليوم إلى وضع أجندة واضحة ترتكز على التوزيع الزمني للإصلاحات إما بصفة سنوية أو نصف سنوية مع قراءة حساب لذلك على مستوى ميزانية الدولة. ويمكن مثلا تخصيص سنة كاملة أو ثلاثي أو سداسي لإصلاح التعليم ومثله للصحة وكذلك النقل.. ويمكن مثلا تحديد ما بقي من سنة 2024 لإصلاح قطاع معين ثم تحديد النصف الأول من 2025 لإصلاح قطاع ثان وكذلك الشأن بالنسبة للنصف الثاني من 2025، على أن يكون كل ذلك بقرار يعبر عن إرادة سياسية عليا من رئيس الجمهورية أو من رئيس الحكومة، ويقع تضمين ذلك في الميزانية من خلال إعطاء "الأولية المالية" للقطاع المعني بالإصلاح. وبذلك يقع وضع كل المعنيين أمام الأمر الواقع ويقع تحميلهم المسؤولية و"محاصرتهم" بحيّز زمني يتحملون فيه المسؤولية لإصلاح ما فسد ولإنقاذ ما يمكن إنقاذه. أما الإبقاء على باب الإصلاحات والترميم مفتوحا على كل الواجهات وفي كل القطاعات إلى ما لا نهاية من حيث الوقت ومن حيث التزام المسؤولين بتحقيق النتائج المرجوّة، ودون أجندة زمنية واضحة لكل قطاع ودون تحميل مسؤولية واضحة ومضبوطة زمنيا، فإن ذلك لن يحقق الأهداف المرجوة. كما أنه لن يدفع بالمسؤولين إلى تحمل المسؤولية كاملة، لأن كلاّ منهم سيتعلل في كل مرة بغياب الإمكانات المالية والبشرية وبغياب الحلول القانونية والفنية.. وبالنتيجة سيؤدي ذلك إلى تشتت جهود الدولة ماليا وبشريا ولوجيستيا وإلى تأخر الإصلاحات، وهو ما يمكن ملاحظته اليوم. فلا التعليم وقع اصلاحهُ ولا الصحة العمومية تم انقاذها ولا النقل العمومي وقع ترميمهُ ولا المؤسسات العمومية تجاوزت الصعوبات، والأمثلة كثيرة.. وهو ما على الدولة تفاديه اليوم لتحقيق عبر استراتيجيات وخطط واضحة ومضبوطة للاصلاح والانقاذ، لا مجال فيها لتشتت الجهود.. فاضل الطياشي