تشرفت جريدة الشروق في شخص الزميل فؤاد العجرودي بإلقاء مداخلة تحت عنوان «عودة الحضارة وسقوط الهمجية» في نطاق الندوة الدولية الملتئمة مؤخرا بمدينة الثقافة في نطاق فعاليات الدورة الثانية لمهرجان الشهيد محمد البراهمي للثقافة العربية حول «المقاومة الفلسطينية ومآلات طوفان الأقصى». وفي مايلي نص المداخلة : إذا كان بالإمكان اختزال تداعيات طوفان الأقصى في عبارة مقتضبة سأقول حتما فلسطين هي الحقيقة والصهيونية مجرد وهم. لقد شاهدت البشرية بأسرها كيف ذابت مساحيق ما يسمى الغرب الديمقراطي لدرجة أن رئيس مجلس النواب الأمريكي دعا علنا إلى ضرب طلبة وأساتذة الجامعات الأمريكية بالرصاص المطاطي رافعا بذلك الستار عن حالة الاستبداد والتهميش التي يرزح تحتها الشعب الأمريكي في ظل هيمنة المنظومة الصهيونية التي تسيطر بقوة المال على سائر مراكز النفوذ وتستقوي على الشعب بمؤثرات «مجتمع الإستهلاك» التي تحول المواطن في آخر المطاف إلى رقم صغير في معادلة ربح ضخمة وجشعة عبر عنها الفيلسوف «مارتن لوثر» من خلال الحديث عن تلك الأقلية التي تجلس بجانب الموقد لعدّ النقود على حساب شقاء الأغلبية. وتكفي الإشارة في هذا الصدد إلى أن 50 مليون مواطن أمريكي أي ما يعادل تعداد سكان المغرب العربي تقريبا محرمون من الدواء والعلاج لأن المنظومة الصهيونية لا ترى أي فائدة في إنفاق المال العمومي على كرامة المواطن فيما واجه الرئيس الفرنسي شعبه بخراطيم المياه الساخنة والغاز المسيل للدموع عندما انتفض ضد قانون التقاعد الذي حول المواطن إلى عبد يخرج من الخدمة ليذهب إلى القبر كما فرض المستشار الألماني «أولاف شولتز» على شعبه خمسة ضرائب منذ قيام الحرب الأكرانية لرأب التداعيات المالية الناجمة عن العجز السيادي تحت الهيمنة الصهيونية . والأكيد أننا سنرى قريبا بمنطق الحتمية التاريخية كيف سيستعيد الغرب الديمقراطي أمراضه المزمنة القديمة مثل الإنقلابات والحروب الأهلية والمجاعات والأوبئة التي صدرها إلى بلدان الجنوب خلال الحقبة الإستعمارية التي انبلجت في بداية القرن التاسع عشر من خلال التزامن الحاصل بين غزو نابليون بونابرت لمصر ومحاولة الكيان الناشئ الولايات المتعدة اجتياح ليبيا في ما يعرف بحرب السنوات الأربعة التي استمرت من 1801 إلى 1804 وانتهت بهزيمة نكراء للأسطول الأمريكي تسببت في صدمة حضارية عنيفة داخل الولاياتالمتحدة التي دخلت منذ تلك الهزيمة في عزلة طويلة استغرقت 112 عاما. والواضح أن الحقبة الإستعمارية الغربية شكلت بكل المقاييس العمود الفقري في مسار تشكل الصهيونية العالمية الذي استغرق نحو خمسة قرون في مرحلة التنفيذ التي بدأت باختراق الديانة المسيحية في القرن السادس عشر بهدف إضعاف الفيتو المسيحي ضد ممارسة «الربي» التي كانت الدافع الرئيسي للإستيطان والتهجير القسري الذي خضع له اليهود في كل المجتمعات الأوروبية دون استثناء على امتداد ما يعرف بالقرون الوسطى لكن لا يعرف في المقابل ما إذا كان هذا الاختراق الصهيوني للديانة المسيحية قد استفاد من الانفجار المسيحي الذي تسبب فيه ملك بريطانيا «هنري الثامن» بإعلان قيام الكنيسة الأنغليكانية في نهاية القرن السادس عشر بسبب خلاف مع «الفاتيكان» حول شرعية طفل أنجبه من إحدى جواريه أم أن النخب اليهودية قد أثرت من وراء الستار في دوافع ومآلات هذا المخاض باستخدام سلاحها التقليدي «المال والنساء والمعلومة» وهو ما يكشف عن أهم نقاط قوة الحركة الصهيونية وهو القدرة الفائقة على التأثير من وراء الستار أو بالأحرى الاشتغال تحت الظلام المطبق. وعلى هذا الأساس سقطت نظرية موازين القوى التقليدية أمام الترسانة الاتصالية الضخمة لمحور المقاومة التي بقدر ما أججت الاحتقان الإنساني ضد الكيان الصهيوني بوصفه «قاتل الأطفال والنساء» فإنها أدت إلى تفكيك هذا الكيان من الداخل وصولا إلى أزمة التجنيد التي لا تختلف في أبعادها وتداعياتها عن الاحتقان الشعبي التراكمي ضد الكنيسة الذي أدى إلى انفجار الديانة المسيحية حيث كان ينظر إليها بوصفها جزءا لا يتجزأ من المنظومة الإقطاعية المتوحشة التي كانت ترزح تحتها الشعوب كما يجب أن ينظر إلى طوفان الأقصى بوصفه تتويجا لمسار كامل بدأ بفشل الصهيونية العالمية في تركيع سوريا فابتداء منذ تلك اللحظة فقدت الحركة الصهيونية موقع الفعل لأن مفاتيح القدس موجودة في دمشق وإذا لم تسقط هذه الأخيرة من المستحيل أن تصفى الحقوق الفلسطينية وبالتالي من المستحيل أن تستلم البشرية للهيمنة الصهيونية العبثية. ويبدو جليا في هذا الصدد أن طوائف المرتزقة التي تؤلف المجتمع الإسرائيلي سائرة نحو التصادم لأن طائفة الحريديم التي تمثل 17 بالمائة من التعداد العام للسكان من المستحيل أن تذهب إلى جبهة القتال وبقية الفئات المرتعبة من الحرب تجد في تمرد الحريديم غطاء شرعيا لتمردها على التجنيد واللوبيات الصهيونية تضغط على الحكومات الأمريكية والأوروبية حتى تمتنع عن إسناد التأشيرة للإسرائيليين ومنظومة الفساد التي تفرض خيار الحرب تستقوي على شعبها بتسليح 400 ألف مستوطن وهو ما يرجح أن هذا التصدع سيتحول قريبا إلى انفجار وقد نشاهد أزمة لاجئين إسرائيليين لا يعرف أين ستتجه. وبالنتيجة تختلف مجريات طوفان الأقصى جذريا عن كل حلقات الصراع العربي الصهيوني التي ساهمت بدرجات متفاوتة في صناعة وهم التفوق العسكري للكيان المحتل وتأثرت بشكل أو بآخر بمنظومة البترو دولار التي نصبت نفسها وصيّا على الإرادة الحرة العربية باحتكارها لقرار الحرب والسلام المرادف في تداعياته للإستسلام. هذه التناقضات التي أوجدت بينة خصبة للتضليل الصهيوني من خلال بروز مفاهيم مسمومة أّهمها على الإطلاق أن المواطن العربي غير مستعد للتضحية من أجل الأرض والكرامة بقدر ما هو قابل للإستفزاز والابتزاز هي انعكاس لإشتغلال مكثف للصهيونية العالمية على تفكيك منظومة الأمن القومي الاستراتيجي للمنطقة خاصة من خلال فصلها سياسيا وثقافيا واقتصاديا عن الحضارة الفارسية ومنطقة الساحل الإفريقي وبالتالي أصبحت إيران في حقبات معينة عنصر استنزاف للعرب مثلما تحول الساحل الإفريقي إلى ورقة ضغط على دول شمال افريقيا وقد حاولت الحركة الصهيونية الإستفادة من هذا الفراغ بالإشتغال على مشروع الشرق الأوسط الكبير . وربما كان هذا المسار سيؤدي إلى قيام «الفاتيكان» الثانية بعد مراحل طويلة من تذويب أسس الدافع الحضاري بدأت بإنشاء الجامعة العربية ثم ضرب مصداقية هذه الأخيرة قبل أن يتغول مجلس التعاون الخليجي. وعلى هذا الأساس أعاد طوفان الأقصى منطقة الخليج العربي 1500 عاما إلى الوراء لتلوح كيانا مناهضا للتغيير مثلما كانت قريش لأن طوفان الأقصى جرف سائر الإنحرافات التراكمية التي حولت مدينة القدس من ملاذ للبشر إلى مصدر تنكيل بالبشر تحت العبث الصهيوني الذي وصل إلى مرحلة قوضت كل أسس الإحساس بالأمان وهو ما كانت عبرت عنه تونس في الإجتماع الأخير للإتحاد من أجل المتوسط عندما أكدت صراحة استحالة استدامة الحياة على كوكب الأرض تحت ما يسمى الصهيونية العالمية. والأهم من ذلك في اعتقادي هو التداعيات الثقافية العميقة لطوفان الأقصى وأساسا مصالحة المسلمين مع إسلامهم الأصيل الذي يمثل منظومة قيم متفردة ومتجددة تحفز العقل وتحقق التوازن القائم على التنوع البيولوجي وللإختلاف الثقافي وذلك على أنقاض تفكك إسلام بريطانيا وداعش أمريكا المقتبس من وحشية الإبادة الجماعية لما يسمى الهنود الحمر حيث تم ذبح 20 ألف من السكان الأصليين دفعة واحدة وهم مقيدو الأرجل والأيدي في واقعة «الركبة المجروحة» فيما كانت صدور النساء تقتطع إثر اغتصابهن. وبالمحصلة نحن أمام انتصار الحضارة الإنسانية على الهمجية التي أحكمت قبضتها على البشر طيلة خمسة قرون من الزمن حيث أرجح أن الحصار الناري والسياسي والاقتصادي الذي فرض على الكيان الصهيوني سيؤدي في قادم الأسابيع إلى انفجار هذا الكيان وعودة جماعية للمستوطنين إلى البلدان التي جاؤوا منها لتبدأ بعد ذلك مباشرة إعادة ترتيب أوضاع البشرية بابتكار أدوات فعالة تحمي الإنسان من التآمر والعبث الصهيوني وإعادة الصراع في العالم إلى مجراه الطبيعي القائم على قوة القيم كبديل عن هيمنة القوة. ملاحظة أخيرة نحن في تونس سعداء ربما أكثر من غيرنا بتراكم مؤشرات انتصار فلسطين لأننا نعي فعلا أن القدس هي صمام الأمان الأزلي ضد كل أشكال الأنانية والاستعلاء وقد قدمنا في سبيل ذلك تضحيات جسام فإذا كان يمكن اختزال دوافع التدمير الشامل الذي شهدته تونس خلال عشرية الخراب تحت حكم الإخوان في عنوان واحد سيكون حتما انتقام الحركة الصهيونية من تونس الحرة المؤمنة بحتمية انتصار الحق الفلسطيني علما وأن التدوينة التي نشرها الرئيس قيس سعيد مساء 7 أكتوبر قد شكلت مرجعا تاريخيا بالغ الأهمية في معركة رهانها التاريخ. الأخبار