لم يخل الفضاء الافتراضي من صناعة الكذب، وإحدى مشتقاته فبركة الوقائع والأحداث وبثّ الإشاعة، والتفنّن في إيصالها إلى جماهير عريضة ، والعمل على جعلها حقيقة تسلّم بها الأغلبية السّاحقة وتقرأ لها ألف حساب . مثل هذه الصناعة تحتاج إلى مهارات في فنّ الادّعاء و التمويه والتضليل ، و إلى قدرة فائقة على التأثير انطلاقا من احتياجات الجماهير العريضة من مستعملي وسائل وشبكات التواصل الاجتماعيّ، واستغلالا للفرصة المناسبة ، وركوبا أيضا على الحدث المناسب في الوقت المناسب. ومن منطلق أكذب ثمّ أكذب حتّى يصدّقك النّاس ، تعمل مجموعات موجّهة على بثّ الكذب وصياغة الأخبار الزّائفة لأسباب كثيرة لكن مظلّتها الكبرى هي المظلّة السياسيَّة ، فالأخبار المتعلقة بمسائل اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية، أو حتّى اليومي البسيط تشكّل صيدا ثمينا للمتربّصين السياسيين والخصوم لإشعال النّار في الهشيم و صبّ الزيت على النار . والغاية من ذلك إحداث البلبلة والفوضى ،وإدخال الجميع في حالة شكّ وخوف، وتشكيك الكلّ ضدّ الكلّ، و جميعها تضرب الاستقرار العام . تنطلق من الفرد الواحد لتعمل على التجييش وتعبئة عدد المتأثّرين وتكون بذلك هذه الإشاعات مثل كرة البولينغ مطالبة بإسقاط قطع الخشب دفعة واحدة. عشنا الصيف المنقضي كذبة الحوت الذي تسلّل إلى شواطئنا، وانتشرت الأخبار والفيديوهات والصور الداعمة لهذا الخبر، و عمّت حالة من الرّعب والفزع ، واستنفر جمهور الفايسبوك بفتاوى كثيرة انتهت إلى مقاطعة البحر والصيف ،وطبعا أوّل متضرر من ذلك القطاع السياحي وتحديدا السياحة الداخلية، وكذلك المواطن الذي تتقلّص لديه فرص التنفيس والترويح عن والنّفس بغلق أبواب الشواطئ. وبالتالي يحدث ما يحدث من تبعات ذلك ، بالوقوع في دوائر الضغط والقلق والعنف وانسداد الأفق . هذه السنة أيضا ، من إشاعة « أسنان البحر «، طلع علينا صنّاع الكذب بخبر تسونامي البحر ، وحدوث زلازل في شواطئ المتوسط تمتدّ من إيطاليا ،إلى تونس والجزائر وليبيا، وانتشرت فوبيا البحر بعد إقدام مصر على غلق شواطئها ليومين خوفا من رجّات أرضية و تغيّرات مناخية من شأنها أن تُحدث تسونامي الموت . وقد مرّ الصيف ولم يخرج غول البحر ببلادنا ومر الفصل بسلام لولا حالات غرق تمّ تسجيلها لها أسباب عديدة لا يمكن ذكرها في هذا المجال. وبذلك نرى أنّ الإشاعة تنطلق بحبّة خردل سرعان ما يكبر حجمها لتصبح في حجم منطاد، كلّما تقبّلها الفرد إلا وأضاف عليها ما عنده ، وأعاد صياغتها ونفخ فيها ونقلها بما يغذّي خوفه وارتيابه وقلقه، لتصبح الكذبة حقيقة، ويتحوّل الخوف إلى حالة عامّة يصعب معها الإقناع حتّى بتوضيحات من المختصين الخبراء، وبدل أن يذهب المصدّقون إلى التسليم بأنّ الأمر يتعلّق بالإشاعة المغرضة ، يوجهون أصابع الاتّهام إلى كل من يعارضهم مخاوفهم ويحاول أن يفتح أعينهم على ما يحدث. هذه القدرة الرّهيبة على التأثّر والتأثير ، لها علاقة بشريحة واسعة من مستعملي الفايسبوك ، وقدرتها على التفاعل السّريع، و قابليتها لتصديق كل ما يُبثّ، وتبنّيه كاليقين والانجرار وراء تصديقه ، والتكتّل وسرعة الالتفاف حول بعضهم البعض بما يخلق حالة من العدوى سريعة الانتشار. وكلّما كان متلقّي الأكذوبة أو الإشاعة محدود الفهم، غير مستوعب لما يحدث حوله داخل البلاد وخارجها، كلّما كان جاهزا للتأثّر ، بل ينخرط بدوره من خلال تصديق الأخبار المفبركة و نقلها في إعادة إنتاجها ونشرها وتداولها حتّى يخرج الأمر عن السيطرة، ويتحوّل إلى حالة من الفوضى الجاهزة لقابلية الاقتتال، أو نشر حالة من الرّعب والشكّ. الأخطر من كلّ هذا ، صناعة الإشاعة بالتّسريبات، والمعطيات، والحجج و الوقائع بما لا يترك مجالا للتشكيك، ويبثّ الفوضى بين أبناء الشعب الواحد ،ويعمل على تقسيمهم إلى جماعات متفرّقة تلتفّ حول بعضها البعض لتكوّن تكتّلات مبنية على تبادل العنف ومنطق الإخوة الأعداء،وتربّص البعض بالكل . ما يحدث ضريبة التطوّرات التكنولوجية ، و اقتتال القوى العالمية بسبب المصالح، وهو اقتتال داخلي أيضا يستعمل ورقة من ورقات تصفية الحسابات ،وزعزعة الاستقرار السياسيّ ، و تفتيت وحدة المجتمعات. بما يفرض ضرورة التأمّل و البحث والتنفّس عميقا قبل التصديق بأخبار يجتهد المفبركون في صناعتها لغايات سياسية بالأساس، تنتهي إلى التقبّل والتسليم والتّصديق ، وتفريق النآس بين مكذّب ومصدّق ومشكّك ، ومن هنا يبدأ ضرب وحدة الشّعوب و إدخالها في حالة رُهاب من المستقبل و المحيطين بها. وحيدة المي