المشهد الأول: نحن في بدايات القرن التاسع عشر. الامبراطوريتان الفرنسية والبريطانية تتنافسان على بسط نفوذهما على المزيد من البلدان وعلى دوس المزيد من الشعوب المستضعفة... قبل أن تتداعيا سنة 1916 إلى عقد اتفاقيات سايكس بيكو لتقسيم الكعكة.. الحملة الاستعمارية المسعورة غلّفت بشعارات رنانة وبأكاذيب برّاقة من قبيل «نشر قيم الرجل الأبيض ونشر حضارة الغرب ونشر أنوار العلم في مناطق يعمّها ظلام الجهل... والنتيجة، عقود طويلة من الاحتلال البغيض ومن نهب الموارد والخيرات ومن تفقير الشعوب وتجهيلها... واقع لم ينفع معه إلا ثورة الشعوب على المحتل وانخراطها في المقاومة وتقديم التضحيات الجسام في سبيل كنس قوات الاحتلال وأذنابه بعد أن استند آباؤنا وأجدادنا إلى مخزونهم الإيماني وإلى حسّهم الوطني مما جعلهم يضحّون بالغالي والنفيس لتحرير الأوطان حتى تنعم شعوب منطقتنا بكرامتها واستقلالها. المشهد الثاني: نحن في أواخر القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين... أفل نجم الامبراطوريتين الفرنسية والبريطانية وصعد نجم الامبراطورية الأمريكية... فاندفعت مزهوة بانهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الثنائية القطبية إلى منطقتنا العربية شأنها شأن كل الامبراطوريات التي سادت وبادت حين دفعتها غريزة الهيمنة والسيطرة نحو السعي الى التحكم في منطقة الشرق الأوسط على أساس أنها مفتاح السيطرة على العالم. وكان العراق المكان المثالي لتدمير دولته والسيطرة على ثرواته من الطاقة. ومجدّدا لم تعدم الامبراطورية الأمريكية الحيلة ولا المبرّر... لتطلع هذه المرة بأكذوبة تدمير أسلحة الدمار الشامل العراقية التي كان الأمريكيون قبل غيرهم يدركون أنها غير موجودة.. وكذلك بأكذوبة نشر قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان. والنتيجة السطو على دولة وتدمير مؤسّساتها وإغراق شعبها في «فوضى خلاّقة» هتكت أرواح مئات آلاف العراقيين وأفضت إلى تقسيم العراق ولو بطريقة غير معلنة إلى 3 كيانات (كردي وسني وشيعي)... وقد رأينا قمّة تحضر الاحتلال الأمريكي في سجن أبو غريب حين كان السجّانون الأمريكان يتسلّون بتكديس أطنان من اللحم البشري لصناعة اهرامات من المساجين العراة من باب التسلية وتحطيم معنويات المساجين وانتزاع اعترافاتهم. المشهد الثالث: مع احتلال العراق كان الأمريكيون قد بلوروا مفهوم «دمّر نفسك بنفسك» لأنهم قرّروا بضغط من المحافظين الجدد الذين تمكّنوا من مفاصل الادارة الأمريكية أن حرب العراق ستكون آخر مرة ترسل فيها أمريكا جيوشها وأساطيلها لغزو بلد وتغيير نظامه... لتوكل مهمة التدمير إلى أبناء البلد الذين يتولّون مهمة تدمير الدول وتحطيم المؤسّسات وتسليم المفاتيح إلى الادارة الأمريكية... هذه الادارة التي لم تتورع عن التصريح بأن كرة النار سوف تتدحرج من العراق إلى سوريا والسودان والسعودية وليبيا... لتكون مصر بمثابة الجائزة الكبرى. وبالفعل لم تتخلّف كرة النار عن التدحرج مدفوعة بتيّار المسيحيين المتصهينين وبقناعة كاملة بالعقيدة الصهيونية... ومستعينة كذلك بتوجّهات الصهيوني الآخر برنارد لويس الذي طلع بنظرية «التقسيم وإعادة التشكيل» على درب الوصول إلى إرساء «شرق أوسط جديد» يمكّن أوّلا من بروز كيانات قزمية تدور في فلك أمريكا والكيان الصهيوني الذي سيتحول إلى القوة المهيمنة على كامل الاقليم بما يساعده على تنفيذ حلمه ب«اسرائيل الكبرى»... ويمكّن ثانيا الامبراطورية الأمريكية من مفاتيح الشرق الأوسط برمّته بما فيه من ثروات وخيرات وممرّات تجارة دولية ومن أرض أديان وحضارات... وبالتالي من مفاتيح التحكم في العالم عملا بنصيحة «برنارد لويس» الذي أوصى بأن «السيطرة على الشرق الأوسط هي السبيل الى السيطرة على العالم»... ومازلنا نعيش فصولا دراماتيكية من مسلسل تدحرج كرة النار أدت إلى إلحاق سوريا بقائمة الدول المنكوبة بعد العراق وليبيا في انتظار أن يأتي الدور على البقية... ماذا بعد هذه اللوحة القاتمة ؟ وأي تفسير لانطلاء مفهوم دمّر نفسك باسم الحرية والانعتاق من الاستبداد على الشعوب... لتندفع اندفاعا على سكّة تدمير الدول وإسقاط المؤسّسات وإشاعة الفوضى والعجز والضعف وتسليم مفاتيح الأوطان للغرباء والمحتلين ؟ إذا كان الاحتلال على زمن آبائنا وأجدادنا يأتي متخفيا، مخاتلا، متسربلا بقيم برّاقة فإن احتلال اليوم يأتينا بوجه قبيح مكشوف. ورغم انتشار التعليم ووجود نخب مثقفة فإنه ينجح مجدّدا في شقّ صفوفنا، وضرب بعضنا ببعضنا الآخر فيما يتسلّم هو بلا عناء مفاتيح العواصم العربية الواحدة تلو الأخرى... فأي زلزال يجب أن يحدث حتى تستفيق الشعوب العربية وتستعيد زمام أمورها وتستنهض همم أبنائها لإجهاض هذه الحملة الاستعمارية الشرسة التي باتت تهدّد باستئصالنا من جذورنا وبإغراقنا في «قدْر» شرق أوسط جديد السيادة فيه للصهيوني وللأمريكي؟ السؤال مطروح برسم الشعوب العربية وما فيها من نخب ومن مثقّفين ومن وطنيين غيورين على عروبتهم وعلى أمّتهم وعلى دينهم. عبد الحميد الرياحي