احتضنت قاعة الطاهر شريعة بالعاصمة اليوم الثلاثاء العرض الخاص بالصحفيين للفيلم المرمم "ريح السد" للنوري بوزيد وهو عمل يعود لقاعات السينما التونسية بعد حوالي أربعين سنة على عرضه في نسخته الأولى سنة 1986. وسينطلق عرض هذه النسخة المرممة من فيلم "ريح السد" في القاعات يوم 12 نوفمبر القادم، وقد تم ترميم هذا العمل بدعم من وزارة الشؤون الثقافية، وبمجهودات من cinémathèque de Bologne بالتعاون مع Cinematek de Bruxelles و Cinétéléfilms، وتم عرض هذه النسخة للمرة الأولى في مهرجان السينما المستعادة ببولونيا- إيطاليا، خلال شهر جوان الماضي. هذا العمل الذي فاز بالتانيت الذهبي لأيام قرطاج السينمائية في دورتها الحادية عشرة سنة 1986، وتم عرضه ضمن فعاليات مهرجان كان السينمائي الدولي في السنة نفسها، ينبش في التابوهات الاجتماعية ويغوص في المسكوت عنه من خلال تناول مسألة الاعتداء الجنسي على الأطفال (الذكور تحديدا) ومخلفاته النفسية والاجتماعية على حياتهم في المستقبل، والوصم الاجتماعي لضحايا العنف الجنسي، والعنف الأسري ببعديه المادي والرمزي، بالإضافة إلى موضوع تشغيل القُصر. هذا الفيلم الذي ينطلق من حدث اجتماعي احتفالي، وهو عرس بطل الفيلم "الهاشمي"، يكشف مأساة حياة بعض الأفراد والوجه الأخر المرتبط بمثل هذه المناسبات الفلكلورية فالعرس لدى أسرة الهاشمي كان بمثابة احتفاء ب"رجولته" التي سيثبتها من خلال الزواج وتأسيس أسرة، ولكن في الآن ذاته كان حدثا فارقا في حياته عاد به إلى أحداث الطفولة وما تعرض له هو وصديقه من اعتداءات جنسية متكررة من قبل العامل بورشة النجارة التي كان الطفلان يتعلمان فيها هذه الحرفة، فضلا عن التعرض للتحرش من قبل النساء أيضا. لم يكن هذا الاعتداء الجنسي حدثا معزولا عن بقية الأحداث في حياة الهاشمي وهو الذي كان ضحية الاعتداء وشاهدا عليه في الآن ذاته، فقد كان الطفل عرضة للعنف المادي بشكل مستمر من قبل والده الذي لم يتذكر أنه تحاور معه ولو لمرة على حد تعبيره في الفيلم. وقد تم سرد كل هذه التفاصيل في العمل باعتماد المراوحة بين الماضي والحاضر من خلال الغوص في ذاكرة بطل الفيلم الذي أثار فيه حدث زواجه تساؤلات كثيرة مرتبطة بهشاشة "ذكورته/ رجولته" وهو الذي لم يعرف من الحميمية غير ما تعرض له من اعتداءات، كما تزامنت تحضيرات زواجه مع كتابة جمل على الحائط تقدح في رجولة صديق طفولته الذي تعرض هو الأخر للاعتداء ولكن الفرق الوحيد أن الهاشمي كتم في نفسه ولم يعرف أحد غيره وغير الجاني ما حدث أما "فريفطة"، كنية صديقه، فقد علم عنه الجميع وبذلك أصبح موصوما اجتماعيا في مقابل تغافل أفراد المجتمع عن ما قام به المعتدي. الفيلم رحلة قاسية في مواضيع بقيت إلى اليوم تُطرح باحتشام داخل المجتمع، وهو ما يجعله صالحا للزمن الحالي كما كان أثناء عرضه في ثمانينات القرن الماضي، فعملية البناء الاجتماعي للرجولة تخضع للعديد من العوامل ويمكن أن تتأثر بأحداث الصبى ولذلك يلجأ كثيرون إلى الكتمان، كما هو الحال بالنسبة لبطل العمل، حتى لا يواجهوا قسوة المجتمع ورفضه كما تعرض له صديقه. اشتغل النوري بوزيد في هذا الفيلم على ثنائية المباشراتية والترميز فبقدر ما كان طرح موضوع العمل مباشرا، بقدر ما حملت التفاصيل رمزيات عميقة، فجسد العنف الرمزي بالمفهوم البورديوي، وفقا لبيار بورديو، أي الذي تسلطه مؤسسات الضبط الاجتماعي من أسرة وغيرها من خلال التنشأة القائمة على التمييز وعلى مجموعة من الصور النمطية التي تربط الرجال بالقوة والصرامة والقسوة أيضا، فوالد الهاشمي كان "أبا" يفرض سلطته بالقوة ويختصر دوره داخل الأسرة على الإنفاق، وإعادة "الضبط الاجتماعي" باستخدام العنف. وعلى مستوى الرمزيات أيضا مثل "فريفطة" الموصوم بانعدام الرجولة، رمزا "للرجولة" على مستويين الأول من خلال دعمه لأصدقائه وإسنادهم معنويا والثاني من خلال إثبات فحولته حين خول له السياق ذلك. ومن الجوانب التي بدأت في السنوات الأخيرة تلقى حظها في الأعمال السينمائية والتي كان هذا العمل سباقا في طرحها، تأثيرات ما بعد الصدمة، وتواصلها على مدى الزمن ما لم يتلقى الفرد الدعم النفسي اللازم، فبطل العمل يعاني على مدى الفيلم من نوبات خوف وبكاء وعدم استقرار نفسي وغيرها من تمظهرات "التروما" التي جاءت نتيجة لما تعرض له من اغتصاب وضرب. اخترق النوري بوزيد من خلال فيلمه الفضاءات المُذكرة على غرار دكاكين النجارة والنقش على الخشب و الحدادة وغيرها، ليبين أنها فضاءات غير آمنة للأطفال، فحول الذاكرة الفردية للهاشمي إلى ذاكرة جماعية للأطفال الذين مروا بدكان النجارة والذين يمكن أن يتعرضوا لنفس مُصاب الصديقين، فكان الفيلم دائم التركيز على الأطفال وكأنه يقدم مقارنة بين الأماكن "الطبيعية" التي يفترض أن يكونوا فيها وهي، ساحات اللعب، وبين الفضاءات التي لا ينتمون لها، وهي فضاءات العمل. اعتمد المخرج في هذا العمل على المشاهد القريبة جدا ليبين تمظهرات القلق النفسي على وجوه الأفراد، وعلى المشاهد الكبيرة ليخرج بالبطل من القلق الفردي إلى المجموعة، كما استخدم في بعض المشاهد الاهتزاز والحركة في الصورة للتعبير عن التذبذب وعدم الاستقرار النفسي والاجتماعي. فكك بوزيد في فيلم "ريح السد" المفاهيم الاجتماعية المُرتبطة ببناء الذكورة والرجولة، وثنائيات القوة واللين، والطيبة والشر، والهشاشة والقسوة. حمل الفيلم العديد من الرسائل من بينها، أهمية التضامن والدعم النفسي بين الضحايا في ما بينهم و دعم المقربين للتمكن من التعايش مع ذكريات الاعتداءات الجنسية، معاناة الضحايا المضاعفة نتيجة الوصم الاجتماعي وكيف يُمكن أن تجعل الشخص في وضع انعزال وهروب دائم، حتى أنها يمكن أن تحوله في بعض الحالات إلى "مجرم" لإثبات "رجولته" من خلال القصاص من المُعتدي، حسب حالة "فريفطة" في العمل. ومن الرسائل المهمة أيضا التركيز على وطأة الأحداث الاجتماعية الكبرى على غرار الزفاف على الفرد، حين يُقدم عليها بدافع إرضاء العائلة وأداء ما يعتبر ضمن "مهامه "كفرد، وكيف يمكن أن تكون مصدر تعاسة.