بعد أسابيع طويلة من واحدة من أفظع حروب الإبادة التي شهدتها القارة الإفريقية في العصر الحديث، بدأ العالم، متأخّرا، في استيعاب حجم المأساة الإنسانية التي تضرب السودان منذ اندلاع المواجهات الدموية بين الجيش وقوات الدعم السريع، وهي حرب لم تعد صراعا على السلطة بقدر ما تحوّلت إلى محرقة مفتوحة ضد المدنيين العزّل، يدفع ثمنها شعب مسالم وجد نفسه رهينة جنرالات يتصارعون على النفوذ، فوق أنقاض وطن تتقاذفه المصالح والحسابات الداخلية والخارجية . وفي ظل هذا المشهد القاتم، أعلن الرئيس الأمريكي، عقب لقائه بولي العهد السعودي، نيته التحرك لوقف النزاع والبحث عن صيغة لاحتواء الأزمة وتقاسم النفوذ بعيدا عن إراقة مزيد من دماء الأبرياء، في خطوة تثير أملا حذرا بإمكان تهدئة لهيب الصراع المستعر قبل أن يبلغ نقطة اللاعودة أي قبل ان يتم تقسيم السودان مثلما بشّر بذلك بعض عرابي مشروع تفكيك المنطقة الى دويلات متحاربة ... فالسودان، ذلك البلد الذي ظل لقرون نموذجا نادرا للتنوع الثقافي والتعايش الديني والامتداد الحضاري العميق، أصبح اليوم مسرحا مفتوحا لوحشية لا توصف، حيث ترتكب مجزرة تلو الأخرى، وتمحى بعض القرى عن الخريطة، ومدن تتحول إلى أطلال يخيّم عليها شبح الموت والخوف... وقد تصدّرت ميليشيات الدعم السريع مشهد هذه الجرائم، بعدما غرقت في مستنقع من الانتهاكات المروعة، من قتل جماعي في الشوارع واغتصاب ممنهج للنساء والفتيات، وإعدامات ميدانية للجرحى في المستشفيات، إضافة إلى حصار وتجويع للمدنيين، وتهجير قسري لمئات الآلاف، حتى باتت صور الفاشر ودارفور تختصر فداحة العصر وانكسار الضمير الإنساني الذي انكشف سابقا في العدوان على غزة وسقطت عنه كل الاقنعة . فالسودان اليوم يجسّد عربدة حقيقية للأطراف الخارجة عن القانون، والتي تريد افتكاك السلطة والنفوذ بكل الطرق والسبل، حتى وإن كلف ذلك إبادة من يقف في طريقهم من مدنيين عزل، حيث تعبث هذه الجماعات المسلحة الخارجة عن القانون والمدججة بأحدث الأسلحة والمموّلة من أطراف دولية بمصير شعب بأكمله دون رادع. صحيح أن بعض التصريحات الأمريكية الأخيرة، وعلى رأسها إعلان وزير الخارجية عن ممارسة ضغوط على الجهات التي تزوّد قوات الدعم السريع بالسلاح، توحي بوجود تحوّل في الموقف الدولي، غير أنّ الشك يظلّ قائما حول جدّية هذه الوعود وقدرتها على ترجمتها إلى خطوات ملموسة على الأرض. فالتجارب السابقة علمتنا أن البيانات وحدها لا توقف المجازر ولا تنقذ الأرواح. إنّ المجتمع الدولي بات أمام اختبار أخلاقي وتاريخي حاسم خاصة بعد تصريح ترامب الذي وعد بوقف المأساة ، فإما أن يتحمّل مسؤوليته في نزع سلاح هذه الميليشيات الإجرامية ومحاسبة قادتها على جرائم الحرب التي ارتكبوها، أو يترك السودان ينزلق نحو سيناريو أكثر قتامة، يشبه ما عرفته دول تمزّقت بالحروب والتدخلات الخارجية، وانتهت إلى الخراب والتقسيم والفوضى المستدامة... فالوقت لم يعد يسمح بالمناورة أو التسويف، وكل يوم تأخير يعني مزيدا من الدماء، ومقابر جديدة، وأطفالا آخرين يولدون في قلب المأساة، وعليه فإن إنقاذ السودان يبدأ بخطوة واضحة وجريئة، وهي نزع سلاح المجرمين قبل أن يدفن الوطن كله تحت ركام الصمت والتواطؤ . ناجح بن جدو