في لحظة مفصلية من تاريخ الصراع مع الكيان المحتل، تأتي الخطوة البلجيكية بالانضمام رسميا إلى جنوب إفريقيا في الدعوى المرفوعة ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، لتؤشّر على تحوّل عميق في المزاج الدولي، وتكريس مسار جديد عنوانه كسر الحصانة السياسية والأخلاقية التي تمتّع بها الكيان المارق لعقود داخل المنظومة الغربية، فهذه الخطوة لا تُختزل في بعدها القانوني فحسب، بل تحمل دلالات سياسية وأخلاقية تتجاوز حدود لاهاي، لتطال بنية النظام الدولي ذاته. فانضمام بلجيكا، الدولة الأوروبية المؤسسة للاتحاد الأوروبي والمتمركزة في قلب القرار الأوروبي، إلى دعوى تتهم الكيان الغاصب بارتكاب جريمة إبادة جماعية، ليس تفصيلا عابرا، بل هو إعلان واضح بأن الحرب على غزة لم تُحدث فقط دمارا غير مسبوق في القطاع، بل أحدثت كذلك زلزالا في السردية الغربية التقليدية التي طالما قدّمت إسرائيل ك»دولة ديمقراطية تدافع عن نفسها» وفق زعمهم، فيما همّشت لعقود معاناة الفلسطينيين وحقوقهم غير القابلة للتصرف. ولعل الأهم في التحرك البلجيكي هو استناده إلى المادة 63 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، والتركيز تحديدا على تفسير «نية ارتكاب الإبادة»، وهي الركن الأكثر حساسية وتعقيدا في توصيف جريمة الإبادة الجماعية، فبلجيكا لا تكتفي بإدانة الأفعال، بل تذهب إلى جوهر المسألة المتعلقة بالخطاب السياسي والعسكري الصهيوني، وسياسات التجويع والحصار، والاستهداف المنهجي للمدنيين والبنية التحتية، باعتبارها مؤشرات على نية إجرامية، لا مجرد «أضرار جانبية» كما دأبت الدعاية الإسرائيلية المضللة والكاذبة على الترويج. ولا شكّ أن هذه الخطوة تعكس بوضوح انقلابا متسارعا في الرأي العام الدولي، خاصة داخل المجتمعات الأوروبية، فمشاهد المجازر في غزة، وصور الأطفال تحت الأنقاض، وسياسة التجويع الممنهجة، أسقطت جدار الصمت، وفضحت زيف الخطاب الإنساني الغربي حين يُستثنى الفلسطيني منه، فضلا عن أن الشارع الأوروبي، الذي خرج بالملايين في عواصم كبرى، فرض ضغطا أخلاقيا على حكوماته، لم يعد ممكنا تجاهله أو الالتفاف عليه بخطاب مزدوج المعايير. ولعلّ ما يجعل التحرك البلجيكي أكثر دلالة، أنه يأتي بعد عقود من نجاح اللوبي الصهيوني في تزييف الوعي داخل المجتمعات الغربية، عبر ربط أي نقد لإسرائيل بتهم معاداة السامية، وتحويل الضحية إلى جلاد في المخيال العام، فحرب غزة الأخيرة كسرت هذه المعادلة، وحرّرت النقاش العام من الابتزاز الأخلاقي، وسمحت بعودة الأسئلة الجوهرية حول ضرورة المحاسبة ووضع حدّ للإفلات الدائم من العقاب. دوليا، تمثّل الخطوة البلجيكية حلقة جديدة في مسار متصاعد لمحاصرة إسرائيل قانونيا وأخلاقيا، فالدعوى أمام محكمة العدل الدولية، وإن كانت مسارا طويلا ومعقّدا، إلا أنها تضع إسرائيل للمرة الأولى في موقع الدولة المتهمة والمارقة عن كل الأعراف الدولية، ومع كل دولة تنضم إلى هذا المسار، تتآكل الهاسبارا الإسرائيلية، وتضعف قدرتها على الاحتماء بالدعم السياسي غير المشروط. كما أن هذه الخطوة تفتح الباب أمام دول أوروبية أخرى لإعادة تموضعها، ليس فقط بدافع أخلاقي، بل أيضا لحماية مصداقية النظام الدولي القائم على القانون، فالصمت أو التواطؤ في وجه جرائم موثّقة على هذا النطاق، يهدد فكرة العدالة الدولية ذاتها، ويحوّل القانون إلى أداة انتقائية تخدم الأقوياء فقط. وفي المحصلة، فإن انضمام بلجيكا إلى دعوى جنوب إفريقيا ليس انتصارا نهائيا للعدالة، لكنه خطوة نوعية في مسار طويل نحو المحاسبة، وهو دليل على أن زمن احتكار الرواية قد انتهى، وأن دماء غزة لم تذهب سدى، بل أعادت ترتيب البوصلة الأخلاقية للمجتمعات الحرة، والأهم، أنه يؤكد أن تزييف الوعي، مهما طال، لا يصمد أمام الحقيقة حين تُعرض أمام الضمائر الحية. هاشم بوعزيز