بقلم محمد عبد الرحمان- أكاديمي وباحث موريتاني- شكلت مصادقة الدورة 57 للجمعية العامة للأمم المتحدة في 20 ديسمبر 2002 على مقترح الرئيس زين العابدين بن علي الداعي الى احداث صندوق عالمي للتضامن ومقاومة الفقر انجازا مضيئا للديبلوماسية التونسية وعنوانا لتقدير دولي وأممي واسع للمقاربة التنموية التي توختها تونس منذ تغيير 7 نوفمبر 1987 والتي أتاحت تحقيق انجازات بارزة على درب تكريس عدالة التنمية ومكافحة مظاهر الفقر والاقصاء والتهميش وتأمين استفادة كل شرائح المجتمع والسكان من ثمار النمو الاقتصادي والتقدم الاجتماعي. وما فتئ مسار تجسيم هذه المبادرة من حيث تأمين دخول الصندوق العالمي للتضامن حيز العمل يحظى بمتابعة متواصلة من قبل الرئيس بن علي الذي جدد يوم 10 ديسمبر 2004 في موكب الاحتفال بالذكرى 56 لصدور الاعلان العالمي لحقوق الانسان التعبير عن الامل في أن يشرع هذا الصندوق قريبا «في أداء رسالته النبيلة تعزيزا لاخلاقيات كونية مشتركة تقوم على التضامن والتعاون بين الامم والشعوب». وقد اقترن هذا الموكب باعلان الرئيس التونسي عن قرار هام ينطوي على مدلولات وابعاد متميزة تجسد عمق التزام تونس بدفع مسار تفعيل الصندوق العالمي يتمثل في تخصيص 10 بالمائة من مجموع تبرعات الخواص والمؤسسات المجمعة بمناسبة يوم التضامن الوطني في تونس لتمويل الصندوق العالمي للتضامن. وتعكس هذه المبادرة حرص تونس على ان ترى هذه المؤسسة الانسانية الرائدة النور في اقرب الاجال بما يمكن من الشروع في تجسيد المجهود الدولي المطلوب لتكريس التضامن مع الشعوب الاكثر فقرا والتي تواجه حاجات ملحة لا تقبل التأجيل باعتبار ان ما تجابهه عديد الشعوب من كوارث ومظاهر فاقة وخصاصة ومرض وانعدام لمقومات الحياة الكريمة وتبعات الحروب والازمات يعد من العوامل المهددة لمستقبل وحياة مئات الملايين من البشر عبر انحاء العالم ولا سيما في بلدان جنوبي آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية التي تحتاج اليوم قبل الغد الى مجهود انساني استثنائي لانتشالها من براثن الافات التي تنخر كيانها وتهدد مستقبلها في كل ابعاده. وبالقطع فإن قرار الرئيس بن علي الاخير بشأن رصد مساهمة تونسية في اعتمادات الصندوق العالمي للتضامن يأتي في مرحلة هامة وحاسمة في التمشي الرامي الى تفعيل الصندوق الذي تخطى اليوم مستوى النداء او الشعار ليلامس آفاقا وتوجهات عملية تضعه على محك الواقع الدولي من حيث النهوض بفعل أممي من اجل مكافحة الفقر وجعل التنمية حقا مشاعا بين بني البشر أيا كانت الانتماءات الجغرافية. فهذا القرار ينصهر ضمن الالتزام الثابت للقيادة التونسية التي تقف وراء مبادرة الدعوة لبعث الصندوق التي اطلقها الرئيس بن علي يوم 25 أوت 1999 بأن تعطي المثال في مدى الالتزام بالغايات التي احدث من أجلها والتي تتمثل في جمع الهبات والمساهمات وتعبئتها في خدمة مكافحة الفقر والنهوض بالمناطق والفئات المحرومة في البلدان الاكثر فقرا التي تواجه مصاعب وازمات متعددة الاشكال. وفي سبيل هذه الغاية النبيلة ما فتئت تونس تقدم المقترحات بشأن الآليات والصيغ الممكنة لتجسيم هذا الصندوق الذي تم وضعه تحت اشراف البرنامج الأممي للتنمية وتم اقرار تسييره من قبل هيئة حكماء تضم 9 شخصيات دولية مرموقة الى جانب المدير التنفيذي للبرنامج الاممي للتنمية ستتولى لاحقا البت في وجهة وطبيعة تدخلات الصندوق في البلدان المستهدفة وفقا للاولويات. وان المسعى الذي تنتهجه تونس مدعومة بعديد دول العالم وبجهود المنظومة الاممية من أجل تفعيل الالتزام الدولي بتمكين الصندوق العالمي للتضامن من أدوات وامكانيات التدخل لفائدة البلدان الاكثر فقرا يجسد وعيا عميقا لدى المجتمع الدولي بحتمية التحرك لايجاد حلول ملائمة لمجابهة ظاهرة الفقر والحد من تأثيراتها السلبية المدمرة على عديد شعوب العالم. وعلى هذا الصعيد فإن مقترح الرئيس زين العابدين بن علي الداعي الى احداث صندوق عالمي للتضامن وان استند الى منجز وطني وتجربة ناجحة في مجال توظيف التضامن لخدمة اغراض التنمية البشرية والمادية فانه عكس ايضا وعي القيادة التونسية بأن مكافحة ظواهر الفقر والجهل والمرض التي تستنزف مئات الملايين من البشر امر لا يتأتى بدون تضامن دولي فعال ولا سيما من قبل الدول الغنية. فمقاربة تونس للعلاقات الدولية والتي ترتكز على النهوض بتعاون أفقي مكثف على مستوى دول الجنوب وعلى ارساء شراكة حقيقية ومتكافئة مع بلدان الشمال قد جعلت من «التضامن» المدخل الانجع والأداة الأمثل لجسر الهوة المتفاقمة بين الجنوب والشمال وتدارك مظاهر الخلل والانخرام المتزايدة في النظام العالمي القائم والذي يقتضي تصويب وجهته واضفاء الابعاد الانسانية الضرورية عليه بلورة تصورات مبتكرة وآليات مستحدثة تكون في مستوى التحدي وتكفل للبشرية ارتياد آفاق جديدة اكثر نبلا وعدلا. وليس من التجاوز في شيء القول بأن الدعم العالمي الواسع الذي حظيت به الدعوة التونسية لبعث صندوق عالمي للتضامن ومقاومة الفقر كان بقدر حجم الوعي الدولي المتنامي بالآثار والتبعات المدمرة على الاستقرار والتنمية العالميين للارقام المفزعة حول الفوارق بين الشمال والجنوب وعن حجم المعاناة الانسانية في اكثر من نصف بلدان المعمورة. ونجد صدى هذا الوعي في الكلمة التي خاطب بها الرئيس زين العابدين بن علي قادة العالم في قمة الألفية للجمعية العامة للأمم المتحدة المنعقدة في 7 سبتمبر 2000 حيث أكّد أن «الأوضاع المأساوية التي تعيشها بعض الشعوب من جراء الفقر والمرض» شكلت بالنسبة اليه الحافز للدعوة الى تكريس التضامن والتعاون بين الدول باعتبارهما حتمية انسانية واخلاقية لا محيد عنها. كما تجسد هذا الوعي الدولي من خلال وضع قادة العالم المشاركين في قمة الألفية التنمية في صدارة الاهتمام العالمي من خلال المصادقة على اهداف التنمية بالنسبة للالفية وهي أهداف واضحة محددة التزموا ببلوغها في أفق سنة 2015 من أجل الحد من الفقر والمرض والأمية وتدهور البيئة والتمييز ازاء النساء. وضمن المسار نفسه بادرت الأممالمتحدة بتحديد السنوات من 1996 الى 2006 كأول عشرية اممية من اجل القضاء على الفقر وباقرار يوم 17 اكتوبر من كل عام يوما دوليا للقضاء على الفقر. كما بادر المنتظم الاممي الذي اضحى يتعاطى مع قضية الفقر باعتبارها قضية «حقوق انسان» وبالتناسق مع المبدأ رقم 5 من اعلان قمة «ريو» لسنة 1992 واعلان كوبنهاغ من اجل التنمية الاجتماعية لسنة 1995 الى جعل القضاء على الفقر في العالم اولوية كبرى. وإن ادراك الابعاد التي تكتسيها قضية الفقر لجهة صلتها بطبيعة منظومة العلاقات الدولية التي تشكلت على مدى النصف الثاني من القرن العشرين وحتى اليوم لتفترض تلمس مظاهر الخلل القائمة وتحليل مسببات الفقر كظاهرة لها تبعاتها الاقتصادية حتما ولكن لها ايضا آثارها السلبية على المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية والبيئية. فالتحسن الملموس الذي طرأ على مستوى عيش سكان العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وخاصة بالنسبة لسكان النصف الشمالي من الكرة الارضية لم يشمل مئات الملايين من البشر في الجنوب الذين ظلوا على مدى العقود الماضية يعانون من الحرمان والبطالة والشغل الهش والأمية والامراض والجوع اضافة الى وسط اجتماعي وطبيعي مضر يحول دون حياة منتجة وذات معنى. ويتأتى فقر قطاعات شعبية واسعة ببلدان الجنوب ولاسيما في جنوب آسيا وافريقيا جنوب الصحراء وامريكا اللاتينية في جانبه الاوفر من عدم مساواة هيكلي ناجم عن التنظيم الاجتماعي والاقتصادي على الأصعدة المحلية والوطنية والدولية. ويعتبر الفقر السبب والنتيجة لفشل التنمية في عديد انحاء العالم ذلك ان النسبة المرتفعة من الامية ومستوى العيش المتدني وقصور التعليم والتغذية غير المتوازنة تعتبر في مجملها العائق امام الافراد لتحقيق المشاركة الفاعلة في مسار التنمية. وتكفي بعض الارقام والمؤشرات للتدليل على حجم التحدي القائم ومن هناك على الأهمية الحيوية لتفعيل التضامن الدولي والعمل على الاستفادة القصوى مما توافق عليه المجتمع الدولي من برامج وخطط وآليات ومنها آلية الصندوق العالمي للتضامن. فالهوة بين الدول الأكثر غنى والدول الأكثر فقرا قد تضاعفت عديد المرات في ظرف السنوات الاربعين الاخيرة من ذلك ان متوسط الدخل في البلدان العشرين الأكثر غنى هو أرفع ب 37 ضعفا عنه بالنسبة للبلدان العشرين الأكثر فقرا في العالم. ويوجد اليوم في البلدان النامية دون احتساب الصين 100 مليون فقير اكثر مما كان عليه الامر قبل عشر سنوات وذلك وفقا لتقديرات رئيس البنك العالمي. كما ان بلدان الجنوب تعد 120 مليون طفل محرومون بفعل الفقر من الدراسة ومن جملة 6 مليارات نسمة في العالم حاليا هناك 3 مليارات يعيشون بأقل من دولارين في اليوم وهو رقم ينتظر ان يرتفع خلال السنوات ال 15 المقبلة الى 4 مليارات من مجموع 8 مليارات نسمة. ويشير التقرير العالمي حول التنمية البشرية لسنة 1999 الى ان 1 فاصل 3 مليار نسمة لا يتمتعون بالماء الصالح للشراب وزهاء 900 مليون من البشر يعانون من سوء التغذية. ووفقا لبرنامج الأممالمتحدة للتنمية فإن 46 فاصل 3 بالمائة من سكان العالم يعيشون تحت خط الفقر سيما في المناطق الريفية وضواحي المدن الكبرى بدول الجنوب. وان هذا الوضع ليفرض على كل امم العالم العمل من اجل ارساء نمو اقتصادي مستديم والعمل على جعل الحد من الفقر في موقع القلب مسار بلورة السياسات كما يقتضي ذلك على المستوى الدولي العمل على تمكين البلدان الفقيرة من الحصول على القدرة على وضع الحد من الفقر ضمن اولويات مجهودها التنموي ذلك ان عديد البلدان النامية لاتزال ترزح تحت عبء الدين الخارجي الضخم وهو وضع يؤدي في تضافره مع مظاهر عدم المساواة والانخرام في النظام التجاري العالمي الذي تهيمن عليه البلدان المصنعة الى الحاق كبير الضرر بقدرة هذه البلدان على مساعدة الفقراء. وقد كانت جملة من المظاهر التي تتناقض مع كونية الحق في التنمية وفي الحياة الكريمة اللائقة هاجسا دائم الحضور في خطاب تونس وفي مبادرات القيادة التونسية التي ما فتئت تحض في اكثر من موقع ومحفل المجموعة الدولية على ارساء مقاربة متعددة الأبعاد تدمج الحد من الفقر ضمن استراتيجيات التنمية المستديمة واعتماد مقاربة شمولية تتجه الى معالجة الأسباب العميقة للفقر كظاهرة لها مسبباتها الداخلية ولها جذورها الخارجية الاكيدة. وتكتسب نداءات تونس وقيادتها الداعية الى ارساء نظام عالمي جديد اكثر عدلا وتوازنا تتساوى فيه حظوظ النماء والتقدم بين كافة الامم والشعوب والى الارتقاء بمقاومة الفقر الى مستوى الالتزام السياسي والاخلاقي الدولي الجماعي تكتسب مزيد المصداقية بفضل انبثاق هذه النداءات عن تجربة وطنية ناجحة بشهادة المؤسسات الدولية المتخصصة وعديد الشخصيات العالمية المرموقة هي تجربة صندوق التضامن الوطني (2626). ومن شواهد اشعاع التجربة التونسية في مجال التضامن حرص عديد البلدان ولاسيما الافريقية منها على استلهامها والنسج على منوالها في مجهودها لمقاومة الفقر ومعالجة مظاهر الاقصاء والتهميش الاقتصادي والاجتماعي. فهذه البلدان التي تتطلع الى واقع افضل لشعوبها تنظر بعين الاكبار والتثمين لما حققه صندوق التضامن الوطني 2626 في تونس من انجازات كمية ونوعية غيرت وجه الحياة حيث ان 1762 منطقة تقطنها ما يفوق 240 الف اسرة استفادت من انجازات هذا الصندوق. وقد تم تخصيص اعتمادات تناهز 784 مليون دينار لتمويل هذه التدخلات التي شملت بالخصوص تهيئة البنى الاساسية والمرافق الجماعية من طرقات ومسالك ريفية وتزويد بالماء الصالح للشراب وتنوير كهربائي وبناء مدارس ووحدات صحية اساسية اضافة الى البرامج المرافقة التي تعنى بخلق موارد الرزق من خلال تمكين السكان من مساعدات مالية وعينية لبعث مشاريع صغرى تؤمن لهم دخلا منتظما يرتقي بهم من منزلة المواطن المكفول الى مرتبة المواطن المسؤول الذي يعوّل بالدرجة الاولى على الذات لمجابهة حاجيات اسرته ومتطلبات حياته بمختلف اوجهها. وفضلا عن ذلك تجد مبادرة الرئيس بن علي التي كانت وراء إحداث الصندوق العالمي للتضامن والتي ارتقت بتجربة صندوق 2626 من دائرة حدود الوطن لتشع على آفاق عالمية اكبر وأوسع خير سند في ما اثمرته الاستراتيجيات والمخططات والسياسات التنموية الوطنية من انجازات مشهودة اتاحت تحسين مختلف مؤشرات التنمية البشرية من تربية وتعليم وسكن وتشغيل وتغطية صحية واجتماعية. وتبرز الارقام الواردة في التعداد العام للسكان والسكنى الذي انجز في تونس ربيع 2004 ونشرت استخلاصاته موفى العام الاسهامات الايجابية لتدخلات صندوق 2626 الى جانب البرامج التنموية الوطنية الاخرى في الارتقاء بظروف عيش ونوعية حياة قطاعات واسعة من السكان التونسيين من ذلك ان نسبة الفقر في تونس قد تقلصت الى حدود 4 بالمائة وتوسعت الطبقة الوسطى لتشمل حوالي 80 بالمائة من الاسر التونسية.