مسألة انتشار العنف اللفظي لدى الشباب لم تعد مسألة محل مضاربة وتخمين أو تكهن بل أضحت الآن من قبيل الحاصل وتقارب «الحقيقة العلمية» بحكم ما وفرته دراسة سوسيو ثقافية أنجزها المرصد الوطني للشباب وأشرف عليها عدد من الأكاديميين والباحثين الجامعيين هم الأساتذة المنجي الزيدي ومحمد نجيب بوطالب ومحمد المهدي المبروك. وأشارت الدراسة التي اشتملت في منهجيتها على محورين أساسيين (المحادثات الجامعية والاستبيان) والتي بحثت في: هل يمثل العنف اللفظي في المجتمع التونسي ظاهرة طارئة أم أنه سلوك آخذ في التفشي والانتشار؟ الى أن 88.18 من الشباب يستخدمون «الكلام الزايد». وتمّت المحادثات الجامعية مع مجموعات شبابية حرص الباحثون على أن تكون ممثلة لمختلف الشرائح العمرية والفئات الاجتماعية وفي الوسطين الريفي والحضري ومن الجنسين من 15 ولاية (أريانة، بن عروس، منوبة، تونس، بنزرت، سليانة، جندوبة، سوسة، صفاقس، القصرين، سيدي بوزيد، القيروان، توزر، قفصة، مدنين). وتراوحت أعمار المستجوبين بين 15 19 سنة (54.55) و20 24 سنة (28.18) و25 29 سنة (10.91) و30 34 سنة (6.36) وينتمي 67.73 من هؤلاء الى أحياء متوسطة و25.45 الى أحياءشعبية و57.73 منهم تلاميذ و18.64 من الط لبة والبقية بين موظفين وإطارات عليا وعاملين وعاطلين عن العمل. خلفيات وتعريفات واتجهت المقاربة السوسيو ثقافية للمرصد الوطني للشباب الى التركيز على العنف كإطار عام وليس كخاصية يختص بها مجتمع بعينه بل هي خاصية كل المجتمعات المعاصرة، فإلى جانب «العنف العرضي» الذي يتمّ ما بين أفراد وأفراد ومؤسسات و»العنف الاستراتيجي» الذي يتمّ تبريره والتخطيط والتنظير له وتوظيفه في رهانات كبرى تتجاوز الأفراد فإن شباب المناطق الحضرية (الأحياء الصعبة) يبدو أداة وضحية في نفس الوقت لعنف اجتماعي حاد. ففي فرنسا مثلا يمثل شباب المناطق الحضرية ذات الأولوية فئة وتمارس وتعيش عنفا هو في حد ذاته تعبير ورد فعل عن اختلال اجتماعي، وفي الولاياتالمتحدةالأمريكية مازال العنف في أوساط الشباب يمثل مشكلا اجتماعيا حادا رغم المؤشرات الايجابية التي سجلت منذ سنة 1993. وتسجل التقارير المنشورة على شبكة الانترنات أن هناك جهدا معرفيا وعمليا كبيرا مازال ينتظر المجتمع الأمريكي للحد من وباء العنف المنتشر في الشوارع والمدارس وأماكن تجمّع الشباب رغم الرصيد الهام من الدراسات التي أفضت لها مدرسة شيكاغو حول موضوع الاندماج. تعريف وعرفت دراسة المرصد العنف اللفظي على أنه سلوك لفظي منطوق أو مكتوب، يتخذ طابعا هجوميا أو دفاعيا يمارسه فرد أو جماعة ضد فرد أو جماعة أو هيئة مقابلة، حاضرة أو غائبة وذلك عند حصول ضرر مادي أو معنوي أو عند حصول مواجهة أو تنافس أو صراع أو اعتداء. وعن تمظهراته تقول الدراسة إنه يتوزع بين لعن وشتم وتعبير وغشّة (التلاعب بالكلام) وإعلاء الصوت والصياح و»الكشّة والنشّة» والبُصاق والحركات الاستفزازية. ويسمي التونسيون العنف اللفظي ب»الكلام الزايد» و»الكلام الفاسد» و»كلام القباحة» و»الكلام الماسط» و»الكلام الأخضر» و»الكلام الخايب» و»كلام الشارع أو لغة الشارع» و»كلام السّوق» و»الكلام المضروب» و»كلام الزّوفريّة» أو «الزوافريّة». ويأتي العنف اللفظي في سياقات عديدة أهمها المهاجمة والاعتداءات الدفاعية والاتهامات والاقصاء والتخويف والتعاظم والتهديد والتحدّي والابتزاز والتجنّب والتحاشي والهروب والإسرار والتخلّي والخداع والتظاهر والغش الدفاعي والتمويه والعرقلة والمقاطعة والصدّ والحطّ من القيمة والبحث عن الملاذ الآمن كما أنه يندرج في اطارات أخرى كالتفاخر والتباهي والإعجاب والإغراءات والتعبير عن الخيبة والنقمة. الفضاءات ينتشر العنف اللفظي في جلّ الفضاءات ويكتسحها غير آبه بالحدود التي تُسيّجها سواء كانت حدودا تستمدّ ردعها من الدين أو القانون أو الأخلاق (الحياء والحشمة)، فهذا الخطاب استطاع أن يخترق مناعة الفضاءات ويشكّل سياقا تداوليا يتبادله الأفراد والمجموعات. وأبرزت المعطيات الاحصائية لدراسة المرصد الوطني للشباب أن الفضاءالعمومي الممثل خاصة في الشارع والحومة يحتل صدارة الفضاءات الأساسية لانتشار العنف اللفظي لدى الشباب التونسي بنسبة 39.86 تليه المؤسسات التربوية ب21.43 فالمقاهي ب17.97، فالملاعب 7.37 وقاعات الألعاب 6.68 ووسائل النقل 4.15 والمنزل 2.54. فالشارع على اعتباره الفضاء المفتوح والأوسع الذي لا يمكن أن نحدّد «رواده» أو مستعمليه ولذلك وبحسب ما ورد في الدراسة يندر أن يطوي العابر مسافة لا تتجاوز عشرات الأمتار دون أن يُقصف سمعه بوابل من الشتائم أو الألفاظ الجنسية وترى الدراسة أن جمالية المدن تحتاج كذلك الى جمالية القول، كما أن العنف اللفظي تجاوز ساحات المعاهد والأماكن المجاورة الى القاعات حيث أصبح هذا المعجم في السنوات الأخيرة متداولا بين الشباب أنفسهم في القاعات أو بين التلاميذ والمربين من جهة ثانية وخصوصا في المعاهد الثانوية، كما يجد الشباب وخاصة في «مقاهي العوام» التي ترتادها شرائح اجتماعية إما عمالية أو عاطلة مجالا واسعا وورشة لابتداع هذا القاموس وإثرائه وتجديده.