مقارنة بما قدمته دول أخرى أقل منها ثراء وقوة، قدمت امريكا مبلغا زهيدا لضحايا كارثة «تسونامي»... ومع ذلك فقد وجد وزير الخارجية الامريكي من الجرأة ما جعله يفسد هذه الحركة الامريكية التي تبقى نبيلة بالمنّ والتبجح... حيث لم يتردد في القول بصريح العبارة ان تلك الاموال على تواضعها سوف تساهم في تلميع صورة أمريكا لدى الشعوب الاسلامية... وهو ما يعني ان الادارة الامريكية تدرك ان صورتها لدى المسلمين مشوهة وانها لا تتردد في ركوب مأساة في حجم تلك النكبة التي ضربت في جزئها الأكبر شعوبا اسلامية من أجل القيام بجملة علاقات عامة هدفها تحسين صورة امريكا لدى المسلمين، ان لم نقل حيازة موقع متقدم على قائمة المترشحين لحملة اعادة أعمار ما أفسده الزلزال وما دمرته الامواج المائية العاتية التي أعقبته... ومع كل هذا، فسوف نتعاطى مع تصريح «باول» في ظاهره، أي ما تعلق بالحرص الواضح على تحسين صورة أمريكا... وهذه قصة تستوجب حديثا طويلا عريضا... بداية هذا الحديث أن كل ثروة أمريكا لن تفلح في تغيير الصورة لو قدمت على طبق للشعوب العربية والاسلامية لأن حركة كهذه مع استحالة تحققها تقفز على أصل البلية وعلى الأسباب الحقيقية التي جعلت صورة امريكا تهتز ثم تهترئ ثم تتدهور ثم تنهار لدى هذه الشعوب، وهي في مجملها أسباب سياسية تتعلق بقضايا تعتبرها الشعوب العربية والاسلامية قضايا عادلة ومقدسة وتتعاطى مع الدول العظمى خاصة على أساس مواقفها الفعلية من هذه القضايا وليس على أساس ما تقدمه هذه القوى من أموال لاستدرار العطف او ل «ارشاء» العيون او شراء الوجدان والعقل... فهذه مواقع ليست للبيع ولا للشراء، وتحضر الاماكن فيها وتحجز من خلال ما تتخذه الدول والحكومات والزعامات من مواقف مناصرة لقضايا الحق والعدل... وحين تقلب الشعوب العربية والاسلامية صفحات القلب والعقل والوجدان فانها تجد قضية احتلال فلسطين وتشريد نصف شعبها في المنافي والشتات واخضاع نصفه الآخر لابشع صنوف الاحتلال الاستيطاني البغيض... احتلال لا يتردد في قصف بيوت السكن بمقاتلات ف16 و18 وبصواريخ الاباتشي وبقذائف الدبابات... وحين تلتفت هذه الشعوب الى مجلس الامن كهيكل قائم على تطبيق قرارات الشرعية الدولية وانصاف المستضعفين في الارض فانها تجد الفيتو الامريكي جاهزا كل مرة لاحباط اي تحرك او حتى مجرد قرار ادانة للعدوان الصهيوني... واكثر من هذا، ولتبلغ المفارقة مداها فقد اعلنت الادارة الامريكية شارون «رجل سلام» وزجت به في اطار ما تسميه «حربها على الارهاب» لتعطيه الغطاء والحصانة اللازمين ليتمادى في غيّه وطغيانه بغية كسر ارادة المقاومة لدى الشعب الفلسطيني وجره جرا الى مربّع الاستسلام والتفريط نهائيا في حقوقه المشروعة وفي طليعتها حقه في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف وحق الملايين من أبنائه في العودة الى أرضهم... ولأن أمريكا لم تكتف بما يلحقه انحيازها الاعمى لاسرائيل من دمار شامل بصورتها لدى العرب والمسلمين فقد تخلت في الأخير عن الوسطاء لتأتينا الى قلب الشرق قوة غزو واحتلال مباشر... ولتدوس بجنازير دباباتها وبنعال جندها عاصمة الرشيد بغداد بما تمثله في عقل ووجدان كل عربي ومسلم... ولتعيد العراق مع سبق الاضمار والترصد الى العصر الحجري تماما كما توعد بذلك وزير خارجيتها جيمس بيكر في لقائه مع طارق عزيز في جينيف قبيل العدوان الثلاثيني على العراق في مطلع التسعينات... كل هذا دون الحديث عن زلاّت اللسان التي تتوعد المسلمين بصفحات جديدة من الحروب الصليبية والتي تكذبها الالسن وتشي بها الافعال وتؤكدها حيث يجد العالم الاسلامي نفسه محشورا حشرا في قِدْر ما يسمى الشرق الاوسط الكبير وشمال افريقيا وتأكله نيران دعوات ل «إصلاح» مزعوم تستهدف في الأخير تذويب مقومات الهوية ليخضع الجميع «لاستحقاقات» الهيمنة الامريكية... إزاء كل هذا، وما يحدثه من دمار بصورة امريكا لدى الشعوب العربية والاسلامية فهل يظن السيد باول ان حفنة من الدولارات تكون كافية لتلميع صورة امريكا؟ وما دام السيد باول حريصا على صورة بلاده لدى المسلمين، لماذا لا يصارح ادارته وهو على أبواب الرحيل بأن عليها اذا أرادت تغيير صورتها لدى العرب والمسلمين أن تعمل على تغيير أصل الصورة وعلى تنقيتها من كل الادران والشوائب، بدل انفاق ملايين الدولارات في الهواء مرّة في أجهزة اعلام بائسة وفي حملات شراء ذمم بعض البائسين، ومرة في المتاجرة بمآسي البشر وبعذاباتهم من قبيل ما حدث في جنوب آسيا؟ والسيد كولن باول يدرك ان المشوار يبدأ من فلسطين والعراق وينتهي عند ضرورة اعتبار العرب على أنهم شعوب راشدة وواعية ولا يمكن ان تساق بعصا راعي البقر الامريكي مهما أوتي من أدوات القوة والغطرسة.