تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وثائق نادرة في ذكرى ميلاد «الريس»: ماذا كتب الزعيم من الفلوجة... وكيف أخفى سرّ الثورة عن شريكة حياته؟
نشر في الشروق يوم 18 - 06 - 2005

في الذكرى السابعة والثمانين لميلاد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر ننشر هذه الاسرار النادرة في حياته وهي واردة في خطابات تلقاها من زوجته أو ارسلها اليها... وهي تسلط الضوء على جوانب اخرى من حياة الزعيم الذي يبقى حيا معنا روحا خالدة ودعوة متجددة لتوحيد الجهود والطاقات العربية خدمة لقضايانا العادلة ولتوقنا المشروع في العيش داخل وطن عربي كبير تظلله رايات الوحدة.
لم يتح لجمال عبد الناصر أن يكشف ملامح حياته الشخصية بنفسه.. لم يرسم ملامحه العاطفيه بفرشاته.. لم يكتب عن علاقته بأقرب الناس إليه بقلمه.. فكان أن فصله الكتاب وقصوه على هواهم.. اخترعوا سيرة لجمال عبد الناصر آخر.. وفرضوها علينا.. لقد عرفنا جمال عبد الناصر من خلال الوسطاء والمترجمين والمرشدين والصوفيين والمبدعين والمغرضين ولم نعرفه مباشرة.. بلا سماسرة يبيعون ويشترون التاريخ لمن يدفع أكثر.
إن خطاباته الى أبيه وأصحابه وخطابات زوجته إليه تعيد الرواية الى طبيعتها بعيدا عن انفعالات الغرباء.. والوسطاء.. فهذه الوثائق التي لم تنشر من قبل ليست مادة منتهية الصلاحية.. ليست زمنا ميتا.. إنها جسر ممدود على كل الأزمنة. إن جمال عبد الناصر لا ينتمي الى جيل الزعماء الكبار الذين خرجوا من رحم الحرب العالمية الثانية فقط.. ولكن.. ظله ينسحب على كل العصور.
وحرية رغيف الخبز وكراسة المدرسة وقرص الدواء المجاني ليست دعوة تخص المصريين وحدهم وإنما هي دعوة وجدت صداها عند كل الشعوب التي تزرع رماحها في لحم الفقر والقهر.. إنني في كثير من الأحيان أشعر أن جمال عبد الناصر في كفة الميزان ويقف الزمان كله في الكفة الأخرى.. في كثير من الأحيان يبدو لي رجلا لا جنسية له.. ولا جواز سفر.. رجلا يقفز على جبهة العصور كلها.
لا أقول ذلك رغبة في فلسفة على مسطبة.. أو حكمة في محكمة.. وليس في نيتي أن القي دروسا في مدرسة ثانوية.. أو محاضرة جامعية.. فليس عندي دروس أعطيها لأحد.. ولكنني سأذهب مع تلك الوثائق الصادقة الناعمة في نزهة قصيرة مريحة نعيد فيها رؤية جمال عبد الناصر الى أهلها وناسها وأصحابها.
إن حياته لم تكن زهرة شكها في عروة سترته.. لكنها كانت صليبا من المتاعب حمله على كتفيه.. حياته كانت جزية وضريبة ومشياً مستمراً على سطح من الكبريت الساخن.. لا كان هو أبنا للسهولة.. ولا كان أبنا للمصادفة.. لكنه رغم ذلك كان لا يغفل اللمحات واللمسات العاطفية الى السيدة التي أحبها وأحبته.. إن المشاعر مائدة ربانية من السماء تهبط علينا لنرى وجها للحياة لا يراه فيها غيرنا.
دبلة في مظروف
في حرب السويس التي اشتعلت في خريف عام 1956 (بعد شهور قليلة من ضربة تأميم شركة قناة السويس) خرج اقتراح من أحد الرجال المقربين من جمال عبدالناصر بأن يتبرع المسؤولون في أعلى مستويات السلطة بأغلى ما لديهم.. «دبلة» الزواج.. إنها تضحية بالرمز.. ليكون الوطن أغلى من كل شيء.. واستجاب جمال عبدالناصر للاقتراح.. وبالفعل خلع «الدبلة» من يده..، أرسلها في مظروف مغلق الى المسؤول عن الشؤون المعنوية في القوات المسلحة.. وجيه أباظة.
فوجئت تحية بأن زوجها لا يضع دبلتها في يده.. ورغم قناعتها بالهدف النبيل الذي تبرع إليه بالدبلة إلا أنها لم تستطع أن تخفي حزنها وعبرت عنه بالرفض.. واصرت على أن يشتري دبلة أخرى.. ويكتب عليها التاريخ الذي كان عليها.. تاريخ اليوم الذي تقدم فيه إليها.. وليس تاريخ الزواج كما جرت العادة.. ونزل والده ليشتري «الدبلة» نزولا عند رغبة بدت فيها العواطف فياضة وجياشة لا يمكن الوقوف أمامها مهما كان المنطق واضحا وطاغيا.
إن ذلك الحب لم يولد بين يوم وليلة.. وفي الوقت نفسه لم يضعفه مرور الوقت.. بل ضاعفه.. لقد أحبت جمال عبد الناصر الرجل.. وخافت على جمال عبد الناصر الثائر.. وساندت جمال عبد الناصر الزعيم.. وحزنت على جمال عبد الناصر الفقيد.. وبقيت نحو عشرين سنة وهي ترتدي ملابس الحداد عليه.
ويمكن أن نشعر بكل هذا الحب في خطاباتها إليه وهو بعيد عنها في حرب فلسطين.. تنتظر بلهفة كلماته وسطوره عبر بريد حربي لا يسعفها.. أو تنتظر سماع صوته عبر تليفون الميدان في مكالمة تنتظرها في بيت شقيقها عبد الحميد كاظم كل يوم اثنين.. حسب الظروف.. فأحيانا يطول الانتظار.. وتعود الى بيتها وهي صامتة.. تداري بصلابتها المعهودة الشجن.
حضرة المحترم الصاغي جمال عبدالناصر أفندي العريش رقم (3) الكتيبة السادسة.
أكتوبر سنة 48
عزيزي جمال :
«أبعث إليك سلامي وقبلاتي الزائدة.. أرجو أن تكون في أحسن الأحوال.. انتظرت أمس لتكلمنى بالتليفون ولم تكلمني.. أنا في غاية الإنشغال عليك.. أرجو أن يكون المانع هو كثرة الإنشغال».
هدى ومنى وأنا الحمد لله بخير وسأنتظرك إن شاء الله يوم الاثنين.. لك قبلاتي الحارة وأشواقي.
تحية.
ومنذ أن تزوجت تحية وهي تتلقى هدية بسيطة من زوجها.. حلق.. غويشة.. خاتم.. مثل ما يفعل عادة الزوج في الطبقات الوسطى.. لكن.. الذي لا يعرفه غالبية الناس أن الشبكة التي قدمها لها جمال عبد الناصر عند زواجها لم تكن حقيقية.. وقد قبلت ذلك.. ولم تعترض.. وفيما بعد عوضها عن ذلك بأخرى حقيقية.. إن الحب ينمو بالمشاعر الجميلة لا بالمجوهرات الثمينة.
كانت حرب فلسطين هي الحرب التي أكتشف فيها جمال عبد الناصر إن المشكلة الحقيقية ليست هناك.. وإنما في مصر.. لقد كانوا يحاربون في فلسطين ولكن أحلامهم كلها كانت في مصر.. «كان رصاصنا يتجه الى العدو الرابض أمامنا في خنادقه ولكن قلوبنا كانت تحوم حول وطننا البعيد الذي تركناه للذئاب ترعاه».. «أن ميدان الجهاد الأكبر هو في مصر»..
وعندما وجد نفسه محاصرا في الفالوجة قفزت خواطره عبر ميادين القتال وعبر الحدود الى مصر ليقول لنفسه: «هذا وطننا هناك أنه» فالوجة «أخرى على نطاق كبير... إن الذي يحدث لنا هنا صورة من الذي يحدث هناك.... صورة مصغرة.. وطننا هو الاخر حاصرته المشاكل وغرر به الأعداء.. ودفع الى معركة لم يعد لها ولعبت بأقداره مطامع ومؤامرات وشهوات وترك هناك تحت النيران بغير سلاح».
شريط الماء
كان جمال عبد الناصر قد ذهب الى مفتي فلسطين الذي كان لاجئا يقيم في حي مصر الجديدة فور إعلان قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين وعرض عليه خدماته نيابة عن مجموعة من الضباط الأحرار اقترحوا أن يقوموا في بلاده بالتدريب والقتال.. لكن مفتي فلسطين أجاب بأنه لا يستطيع قبول عرضه دون موافقة من الحكومة المصرية.. فتقدم جمال عبد الناصر بطلب إجازة كي يتمكن من الانضمام الى المتطوعين.. لكن.. قبل أن يبت في طلبه كانت الحكومة قد قررت دخول الحرب.
عزيزي جمال :
«سلامي وقبلاتي الحارة لك.. أرجو أن تكون في غاية الصحة والهناء.. وصلني جوابك بعد حضور والدك العزيز.. وقد فرح بهدى ومنى جدا.. وقال الاثنان أحلى من بعض». «أنا بخير الحمد لله وهدى بتسأل عليك وكل يوم تقول أنا حاكتب لبابا وتردد هدى دح ومنى كخ».
«لم أحضر خادمة للآن وكنت أود ألا أخبرك حتى لا تتضايق لكن دي مش مشكلة عندي الآن لكن راحتي هي أن أكون مطمئنة عليك وأن آراك قريبا».
ختاما لك قبلاتي الزائدة وقبلات هدى ومنى.
تحية
وفي الخطاب نفسه سطور من والده:
ابني العزيز جمال أفندي
«أتمنى لك السلامة.. حضرت مصر وقد وصل خطابك المؤرخ في 3 الجاري الى تحية هانم بعد حضوري وأرجو أن تكون مطمئناً وقد وجدتهم بخير وهدى ومنى وتحية هانم لا ينقصهم إلا مشاهدتك.. أعادك الله لهم ولنا جميعا سالما منتصرا إن شاء الله».
8 6 1948
والدك: عبد الناصر حسين
21 شارع الجلالي العباسية مصر.
شوق زائد
طوال فترة الحرب تحملت تحية المسؤولية دون شكوى وهي التي تربت في بيت كان يوفر لها كل سبل الراحة والخدمة.. لم تكن لتقول له شيئاً لو تعرضت هدى أو منى لمرض ما من أمراض الصغار.. كانت تخبره فقط بأنهما بخير.. لم تكن لتطلب منه نقودا.. بل كانت تطالبه بألا يرسل نقودا.. فما معها يكفي ويفيض.. لم تكن تثير قلقه بأنها تقيم بمفردها..
فأغلبية أفراد عائلتها كانوا مشغولين بأنفسهم.. وبالطبع لم تكن لتروي له كيف تعاني من الوحدة والقلق عليه.. لقد كانت تعبر عن ذلك بالدموع أحياناً.. لكن بينها وبين نفسها.. فقط كانت تعبر في خطاباتها عن شوقها الزائد له.
حضرة المحترم اليوزباشي جمال عبد الناصر أفندي العريش رقم (3) الكتيبة السادسة.
4 أكتوبر سنة 1948
عزيزي جمال :
«قبلاتي التي لا عدد لها وأشواقي لك.. أرجو أن تكون في أحسن حال.. سأذهب الآن لانتظرك تكلمنى بالتليفون.. ارجو أن تكلمنى لأني في الحقيقة المرة اللي فاتت رجعت زعلانة ومشغولة جداً لأنك قلت لي انك ستكلمنى ولم تتكلم.. لكن.. الحمد لله اطمأنيت عندما وصلني جوابك.. هدى ومنى الحمد لله بخير وإن شاء الله سأذهب بهما جنينة الحيوانات وجنينة الأسماك كما قلت لي ولو أني لم أذهب الى جنينة الأسماك لكني أعرف مكانها جيداً».
العيد قرب يا حبيبي.. كل عام وأنت بخير.. لك قبلاتي وقبلات هدى ومنى.
تحية
ثم نصل إلى الخطاب الأخير في مجموعة الخطابات النادرة غير المنشورة من قبل التي حصلنا عليها:
عزيزي جمال :
«أبعث إليك سلامي وقبلاتي الزائدة وأشواقي وأرجو أن تكون في أحسن الأحوال وأن يكون موعد حضورك قرب فقد مضي شهر على سفرك.. ما أطوله شهر». «لقد اطمأنيت بعض الشيء من الهدنة وأدعو الله أن يعقبها سلام دائم.. جاءنا ضابط وأخبرنا أنك بخير وأنه كان معك قبل حضوره بيوم فشكرته لك يا حبيبي لاهتمامك الزائد بي وتقديرك لشعوري».
«هدى ومنى الحمد لله بخير وها هي هدى جالسة أمامي على الترابيزة ومنى بقت عفريتة قوي وتعلمت كلمات كثيرة منها لأ وطول النهار تقول لجدها أبه أبه وهو مسرور جدا وبيشلها كثيراً. «لا تؤخر علينا الجوابات فأكتب كثيرا.. لك قبلاتي وقبلات هدى ومنى».
تحية
لكن.. هذه المرة وجدت تحية ما يطمئنها قبل أن يكتب لها جمال عبد الناصر خطابا.. فقد وجدت خبرا عن لقاء جرى بين زوجها وضابط إسرائيلي اسمه بروهام كوهين على صفحات جريدة أخبار اليوم.. لقد تقدم الضابط الإسرائيلي الى الخطوط المصرية في سيارة جيب عليها علم أبيض وهو يقول: «ضابط إسرائيلي يريد أن يقابل ضابطا مصريا»..
ومضت نصف ساعة حتى وجد ثلاثة أشباح تأتي إليه من عمق القوات المصرية كان بينهم جمال عبد الناصر رئيس أركان الكتيبة السادسة.. وطالبهم الضابط الإسرائيلي بالاستسلام ووعدهم بالمعاملة اللائقة والعودة الى بيوتهم سالمين.. وكان رد جمال عبد الناصر عليه: إنهم والجنود الذين معهم يدافعون عن شرف بلادهم لا عن شيء آخر.. بعد ذلك كان هناك طلب آخر.. أن يسحب اليهود قتلاهم.. واتفق على موعد مناسب لذلك.. وفيما بعد قال الضابط الإسرائيلي عن جمال عبد الناصر: «لقد أدركت اني أقف أمام رجل يتمتع بشخصية قوية وعلى علم تام بمشاكل بلاده وبمشاكل الشرق الأوسط».
الجهاد الأكبر
لم تنته معاناة تحية بعد عودة جمال عبد الناصر من فلسطين.. بل زادت.. فقد ترك جمال عبد الناصر الجهاد الأصغر هناك ليبدأ الجهاد الأكبر هنا.. وفي بيته بالعباسية كان يستقبل كل من يسعى الى التغيير.. إن الشقة كان لها باب خاص يؤدي الى غرفة استقبال الضيوف كعادة شقق تلك الأيام التي اتسمت بالمحافظة الشديدة.. ومن ذلك الباب الخاص دخل المرشد العام للإخوان المسلمين حسن البنا وجلس معه في غرفة الصالون أكثر من مرة..
حسب شهادة نادية ابنة شقيقة تحية التي كانت قريبة جداً منها حتى وفاتها.. ورغم أن جمال عبد الناصر لم يكن يؤمن بأفكار حسن البنا وجماعته فإنه تطوع لتدريب رجالهم على الأعمال الفدائية التي كانت تجري ضد الاحتلال البريطاني في منطقة القناة.. وأغلب الظن أن عيون البوليس السياسي كانت ترصد ما يفعل وهو ما أدى الى استدعائه للتحقيق أمام رئيس الحكومة القوي في نهاية الأربعينات: إبراهيم عبدالهادي.
كان ذلك في مايو 1949 في مكتب رئيس الحكومة الذي سأله عن علاقته بالقيادي الإخواني محمود لبيب فلم ينكرها.. واستطرد: «لقد كنا نحارب معا في فلسطين».. فكان السؤال التالي: «ومن الذي قام بدور الوسيط في هذه العلاقة؟».. وكانت الإجابة: «اليوزباشي أنور السياجي».. وشعر إبراهيم عبد الهادي بأنه وضع يده على صيد ثمين فسأله: «وأين يعيش أنور السياجي؟».
.. وبسخرية ناعمة قال جمال عبد الناصر: «في رحاب الله.. فقد استشهد في الحرب».. استمر التحقيق من الصباح إلى ما بعد المغرب.. وعاد جمال عبد الناصر بعدها إلى بيته ليجد تحية وهي تحاول التغلب عن شعورها بالقلق بأشغال التريكو أو بقراءة رواية «المعذبون في الأرض» التي كتبها الدكتور طه حسين ونجح زوجها في الحصول على نسخة منها رغم مصادرتها ومنعها من التداول.
لم تؤثر تلك الواقعة على النشاط السري الذي يمارسه جمال عبد الناصر.. بل أنه كثيراً ما فتح بيته لزملائه في تنظيم الضباط الأحرار.. وكثيراً ما وضع المنشورات والأسلحة تحت سرير نومه.. ورغم أن تحية كانت تشعر بما يجري في بيتها فإنها كانت تقول لمن يأتي إليها من عائلتها: «إن جمال يذاكر هو وزملاؤه.. ولا أريد أن أزعجه».. ولم تستمع أيضا لنصيحة شقيقها مصطفى الذي كان يدعوها للكف عن إنجاب المزيد من الأولاد.
في صيف ,1952. صيف الثورة.. سافرت أسرة جمال عبدالناصر الى الإسكندرية لتقضي شهور الحر هناك كما اعتادت.. لكنهم لم يبقوا فيها سوى عدة أيام عادوا بعدها إلى القاهرة.. وكانت الحجة التي بررت بها تحية تلك العودة السريعة بأنهم «أكلوا أكلة جمبري فاسدة وشعروا بالتعب فقرروا العودة».. لم تشأ أن تكشف عن شعورها الخفي بأن شيئاً كبيراً يدبره زوجها على وشك أن يحدث.
مسدس وبيان
في ليلة الثورة فوجئت به وهو يرتدي ملابسه ويضع مسدسه في وسطه فسألته وهي تداري شعورها بالقلق عما يدفعه الى حمل المسدس وهو خارج ليلاً؟.. فقال: إنه يخشي الاغتيالات التي ازدادت في الفترة الأخيرة.. لكن قلبها كان يحدثها بشيء آخر.. فبقيت في البيت ويدها على قلبها.. وبالقرب منها في حي كوبري القبة حيث قيادة أركان الجيش «لعلعت» طلقات الرصاص.. ووصل صداها إليها.
في الصباح بعد أن أذيع البيان الأول للثورة جاء شقيقها مصطفى ليقول لها: «أوعي جمال يكون من الضباط المجانين اللي تحركوا ضد الملك.. الملك حيشنقهم».. فكان ردها: «لا.. جمال مالوش دعوة».. فقد كانت تحية تتصور أن العمل السري الذي ينخرط فيه زوجها موجه ضد الإنجليز.. لا ضد الملك..
ومن ثم فإن ما جرى كان مفاجأة لها هي أيضا. لكن.. مصطفى عندما ذهب إلى تجارته في منطقة الأزهر ماراً بميدان الأوبرا وجد جمال عبد الناصر في سيارة مكشوفة هو ومحمد نجيب وسط مظاهرة تأييد حاشدة من البشر.. فأسقط في يده.. فعاد إلى شقيقته ليقول: «شفت عبد الناصر عملها».. ولم تجد تحية ما تقوله.
إن مصطفى لم يكن يهتم بالسياسة.. كان يتفرغ للتجارة.. ولا يهتم في الدنيا بسواها.. وبتعويض الثروة التي ضاعت من شقيقه الأكبر عبد الحميد في البورصة.. وقد بقي في الظل طوال فترة حكم زوج شقيقته.. وقد توفاه الله مؤخراً.. في شهر أكتوبر عام 2004 .
الوحيد الذي كان متحمساً لما يفعل جمال عبد الناصر زوج منيرة شقيقة تحية الكبرى السيد يوسف الذي قال لتحية في وقت كانت لاتزال فيه الثورة على كف عفريت: إنه لو حدث شيء لا قدر الله لجمال فإن أولاده سيصبحون أولاده.. أما باقي أفراد عائلة تحية فقد عرفوا الخبر من الصحف.. مثلهم مثل غيرهم.
كان محمد نجيب لا يزال في الواجهة.. لكن.. كل من كانوا يتابعون الثورة عن قرب كانوا يشيرون إلى جمال عبد الناصر بصفته الرجل القوي.. وبعد سنوات من الخلافات والاختلافات وجد الزعيم الحقيقي للثورة نفسه في مكانه الطبيعي.. في الصدارة والمقدمة.. فكيف تصرفت زوجته؟.. ما الذي فعلته بالضبط؟.. الإجابة تستحق الانتظار.
------------------------
** مرثية جمال عبد الناصر
نزار قباني
الى الزعيم الخالد جمال عبد الناصر الذي رحل جسدا وبقي روحا... اليه في ذكرى مولده التي تصادف مثل هذا اليوم (15 جانفي 1918)
قتلناك... يا آخر الأنبياء
قتلناك..
ليس جديدا علينا
اغتيال الصحابة والأولياء
فكم من رسول قتلنا..
وكم من امام..
ذحبناه وهو يصلّي صلاة العشاء
فتاريخنا كلّه محنة
وأيامنا كلّها كربلاء
نزلت علينا كتابا جميلا
ولكننا لا نجيد القراءة
وسافرت فينا لأرض البراءة
ولكننا... ما قبلنا الرحيلا..
تركناك في شمس سيناء وحدك
تكلّم ربّك في الطور وحدك
وتعرى..
وتشقى..
وتعطش وحدك..
ونحن هنا... نجلس القرفصاء
نبيع الشعارات للأغبياء
ونحشو الجماهير تبنا وقشّا
ونتركهم يعلكون الهواء
قتلناك..
يا جبل الكبرياء
وآخر قنديل زيت..
يضيء لنا في ليالي الشتاء
وآخر سيف من القادسية
قتلناك نحن بكلتا يدينا
وقلنا المنيّة..
لماذا قبلت المجيء الينا؟
فمثلك كان كثيرا علينا..
سقيناك سمّ العروبة حتى شبعت..
رميناك في نار عمّان... حتى احترقت
أريناك غدر العروبة حتى كفرتْ
لماذا ظهرت بأرض النفاق..
لماذا ظهرت؟
فنحن شعوب من الجاهلية
ونحن التقلّب..
نحن التذبذب..
والباطنية..
نبايع اربابنا في الصباح
ونأكلهم حين تأتي العشية..
قتلناك..
يا حبّنا وهوانا..
وكنت الصديق، وكنت الصدوق
وكنت أبانا..
وحين غسلنا يدينا... اكتشفنا
بأنّا قتلنا منانا..
وان دماءك فوق الوسادة
كانت دمانا
نفضت غبار الدراويش عنّا..
اعدت الينا صبانا..
وسافرت فينا الى المستحيلْ
وعلّمتنا الزهور والعنفوانا..
ولكننا
حين طال المسير علينا
وطالت اظافرنا ولحانا
قتلت الحصانا..
فتبّت يدانا..فتبّت يدانا..
اتينا اليك... بعاهاتنا..
وأحقادنا.. وانحرافاتنا..
الى ان ذحبناك ذبحا
بسيف اسانا..
فليتك في ارضنا ما ظهرت..
وليتك كنت نبي سوانا
أبا خالد... يا قصيدة شعر تقال
فيخضّر منها المداد..
الى أين؟
يا فارس الحلم تمضي..
وما الشوط حين يموت الجواد؟
الى أين؟
كل الاساطير ماتت..
بموتك... وانتحرت شهرزاد
وراء الجنازة... سارت قريش
فهذا هشام..
وهذا زياد..
وهذا يريق الدموع عليك
وخنجره، تحت ثوب الحداد
وهذا يجاهد في نومه..
وفي الصحو..
يبكي عليه الجهاد..
وهذا يحاول بعدك ملكا..
وبعدك..
كل الملوك رماد
وفود الخوارج... جاءت جميعا
لتنظم فيك..
ملاحم عشق..
فمن كفّروك..
ومن خوّنوك..
ومن صلبوك بباب دمشق
انادي عليك... ابا خالد
وأعرف اني أنادي بواد
وأعرف انك لن تستجيب


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.