كان البرد في ذلك الصباح الدمشقي الجميل لاسعا لكن بخفّة. وكانت خيوط شمس الشتاء، كأنّها ربيعية، في قوة اضاءتها وفي سطعان شعاعها. لذلك وعلى الرغم من خمول الصيام، وذهابه بالصائم الى الكسل، سرى في الجسد نشاط، فقد كان كل شيء يغري بالتجوال، خصوصا إذا كانت الوجهة منطقة الصالحية، وإذا كان المقصود مقام الشيخ محي الدين! في دمشق يكفي ذكر الاسم، اسم هذا العلم، ليغني عن اللقب أو الصفة! في المسجد، أو الجامع التابع للمقام يصادفك ما لا تتصوّر، فعلى مقربة من المحراب، ووسط المصلّين، جلس عازف قانون، ومعه ضارب دفّ، ينشدان موسيقى صوفية واضحة، وأمامهم اجتمع راقصون، عوّضوا الصلاة أو أتمّوا الصلاة ومرّوا الى تعبيرات جسديّة، تدلّ على شدّة طرب عند أكثرهم، وعلى فناء واضح عند أولئك «المجاذيب» الذين تستطيع أن تفرزهم بنظرة واحدة، من الذين ملكوا عقولهم رغم شدّة الوجد، ومن المريدين الذين لا يعرفون معنى الغيبة التام! وتشعر النفس بفرح وسرور، لا ينسيان أبدا الخشوع المطلوب، عند دخول بيت من بيوت الله العامرة بالعبّاد. وتلحّ على الواحد غاية الوقوف للتوّ أمام قبر صاحب ترجمان الأشواق! ويا لها من لحظة، يا لها من لحظة جليلة اختفت فيها دمعة في الصدر عظيمة وعميقة وطويلة، ويا لها من لحظة تشعر معها أن الله أكرمك بزيارة واحد من أحبائه وأصفيائه. فيتبدّل حزنك المتراكم عبر السنين الى لحظة حبّ حقيقية تجاه خالق صاحب المقام! ولأنك تشعر وقتها أن الأمر جلل، وأن عملا ما هو بانتظارك، وهو يحتاج منك كل انتباه، وكلّ تفرّغ. تغادر المقام مسرعا، لكن صافي الذهن، منشرح الصدر! * * * وتعود لتحسّس أوضاع سوريا سياسيا، فترى كيف أن الجغرافيا، أصبحت ضرورية في تأمّلها لتحلّل بعض تلك الأوضاع، فزيادة على احتلال العراق الذي يمثّل بطبعه تهديدا مباشرا لسوريا، أصبحت عدّة أطراف تجعل من الوجود السوري في لبنان مشكلة بعد أن مثّل لسنوات طويلة حلاّ اقليميا ودوليا. وزيادة على احتلال الجولان، أصبح الواحد يشعر أن التباعد بين دول الخليج أو بعضها وبين سوريا، جليّ وواضح. ويقفز في الذهن عند هذه التأمّلات مصير ثلاث دول اعلان دمشق الذي برز كتكتّل بعد حرب الخليج الثانية ضد العراق، ثم تبخّر واتخذ شكل تحالف ثلاثي مصري سعودي سوري، نرجو أن لا يتبخّر، ثم إن إيران التي كانت تمثّل شريكا استراتيجيا لسوريا، غارقة الى العنق في مثل هذه المشاكل، وفي ما هو أكثر منها. ويشوب الواحد احساس أن الشراكة الاستراتيجية للبلدين أصبحت غير واضحة، وأن إيران تركض لوحدها. إذ لعل، بل وبالتأكيد، فرض احتلال العراق على البلدين، انغماسا في ترتيب البيت من الداخل، وفي التوجّه للحلفاء أو للمتفهمين في الخارج بملفّات متناقضة. وتريد عدّة أطراف جرّ سوريا الى خطيئة كبيرة، أو تهمة ثابتة، حتى يتبرّر ضربها، أو نية ضربها، وهو ما هو غيرمقبول الآن عالميا تماما. لكن المشكلة أن الأطراف المتآمرة، وهما أمريكيا واسرائيل، تعيشان بكل المقاييس حالة جنون، لا تأبه إلا لفرض أمر واقع، وتعتقدان أن مصالحهما أصبحت غير مضمونة الا بالضرب. وهذا كلّه يمثّل مخاطر جمّة حول سوريا. ويكفي تأمّل «الأجندة» الأمريكية للمنطقة، المطلوب تغييرها كما قال كولن باول بشكل يضمن المصالح الأمريكية، لتلاحظ أن أمريكا لم تعد تقبل بشعرة معاوية وبسياسة شعرة معاوية التي طالما مارسها معها الرئيس حافظ الأسد. إلا أن المشكل يتمثّل في أن هذا أيضا يزيد من ورطة أمريكا مع دمشق، خصوصا أنها لم تبتدع سياسة جديدة لها، تجعل من سوريا إما صيدا سهلا، أو رقما صعبا لكن يمكن التعامل معه. وبالتأكيد فإن أمريكا تتمنّى يوما تقوم خلاله، فلا تجد فيه نظام سوريا، لكن السياسة ليست أمان وتصوّرات، بل ولادة عسيرة ومؤلمة جدّا أحيانا. وبالتأكيد هي الآن تناور وتضغط وتخنق الأنفاس، لكن صوب مطالب هي مرفوضة سوريّا، كلّ الرفض، إذ فيها بعض ما يمسّ سيادة وشرعية النظام ذاته، وما يلحق كلّ الأذى بثوابت إذا أضاعها النظام السوري ضاع بدوره. وذلك مأزق وورطة لأمريكا ذاتها، أو لإدارتها الحالية. ومع ذلك فإنه على سوريا أن تتغيّر، وقد بدأت فيها بدايات تغيير، أهمّها التغيير الداخلي الذي هو صمّام الأمان الأول.