أتذكّر «دون كيشوت» أكثر فأكثر هذه الايام... أتذكّره وأفتقده افتقادي الاحباب وتوائم الروح... أعود الى قراءته بين نشرة اخبار واخرى، بين نبأ كارثيّ وآخر، حين أرى العالم يعلن باسم «العقل والواقعية» عن ارتفاع صوت البيع والشراء، والاعتداء على محارم الاحلام، والتنصّل من القيم والمبادئ و»الفروسية»، واعتبارها بضائع انتهت مدّة صوحيتها... اتذكّره وأفتقده كلّما احتجت الى مفكّري ومبدعيّ فلم اعثر لهم على اثر... أكثرهم صامت هذه الايام... أكثرهم منسحب مستقبل ناعم نائم لا يخبّش ولا يدبّش... وإذا رع صوته فمثل التلميذ «المؤدّب النجيب» حين يرفع اصبعه للاستئذان... لا وقت لديهم للانشقاق والحلم و»محاربة الطواحين» هذه الايام... ناسين أن «محاربة الطواحين» مبرّر وجودهم الوحيد... لكأن الارض ابتلعتهم فجأة فإذا هم لابدون، هامدون، أدمغتهم «واحلة» في حسابات الربح والخسارة وعيونهم تبحلق يمنة ويسرة في انتظار اتجاه الريح... في مثل هذه الايام احنّ الى دون كيشوت... أعود إليه في كتابات بودلير، ورمبو، الفرنسيين الجميلين، وفوكنر وملفيل وهمنغواي، الامريكيين الرائعين، ولوركا ونيرودا وريتسوس وكافكا وبسوا وتيودور اكيس وبيكاسو وغيرهم من «دونكيشوتات» الابداع العالمي... في استطلاع شمل مائة كاتب من أبرز الكتاب في العالم، أعلن معهد نوبل ان رواية «دون كيشوت» أفضل عمل أدبيّ في العالم حتى نهاية القرن العشرين... بل ان كونديرا ذهب الى ابعد من ذلك، بالقول ان مؤسس الازمنة الحديثة ليس ديكارت فحسب، بل هو كذلك سرفانتس... اما النقاد والمختصّون فيكادون يجمعون على أن شخصية «دون كيشوت» من أفضل الشخصيات التي أبدعها الانسان، اضافة الى دون جوان وهاملت وفاوست، وهي شخصيات اعتمد عليها الفكر والعلم، فإذا هي مراجع للبحث والاكتشاف والتمثّل والحلم، حيكت حولها الاساطير وكثرت في شأنها التفسيرات واتّخذت منها الرموز، وأصبحت جزءا من العقل الكلي للانسانية... وأصبح لها دور اعظم من الكثير من الشخصيات التاريخية «الحقيقية»، ولكن، أليس الأدب اقرب الى الحقيقة أحيانا؟ أليس مصدر هذه «الحقائق» في الكثير من الأحيان؟؟ على الرغم من تعدّد محطّات الرحلة الدونكيشوتية، فقد ظلّت الصورة الاكثر حضورا في ذاكرتي، صورة «الفارس» العنيد وهو يحارب «طواحين الهواء»، مصرّا على انها عمالقة اشرار... ضحك الكثيرون امام مشهد دون كيشوت وهو يتوهّم «فروسية» انتهت مدّة صلوحيتها وانقضى زمنها، لكني ظللت مصرا على أن سرفانتس لم يرد الاستخفاف بذلك «التوهّم»... بدت لي سخريته الحيية وسيلة ملتوية للاشادة اكثر بذاك الفارس الاخير (لكل لحظة دائما فارسها الاخير) وهو يصرّ على «أوهامه»... دارت بي الايام بعد ذلك واصبحت افضّل الاحلام على الاوهام، لكني ظللت اقرأ حرب دون كيشوت على الطواحين من زاوية الحاجة الى الحلم في عالم يحوّل العقل الى رسن او لجام... ظللت ارى في «محنته» رمزا لضرورة المقاومة، اصرارا على الاحتفاظ بالحق في الدفاع عن شيء من القيم ضد ما يدعو الى نعي كل قيم. لهذه الأسباب أعود الى قراءة هذه الرواية أكثر فأكثر هذه الأيّام... آخذ دون كيشوت من يده واخرجه من الرواية واتصفّح به هذه الحياة التي نحبّها جميلة سمحة رحبة جديرة بالفرح... أعود إليه لأجد فيه صورتي لائقة بالحياة، تماما، كما تمنّيتها منذ قرأت الرواية أوّل مرّة، على عتبة الشباب... كنت أستعدّ للكتابة وأبحث عن كل ما يسند الروح في زمن يستعد للعصف بكل روح... لم أجد أيّامها أفضل منه في اصراره على محاربة الطواحين من كل لون ورائحة ونوع... مدّني أحد الاصدقاء بنسخة مهترئة من الرواية وقال لي كمن يعتذر، إنه لا يفهم سرّ اعجاب الكثيرين بها والحال انها في نظره اقرب الى أدب الاطفال... شدّني في البداية ادّعاء الكاتب / الراوي ان الرواية كتبت في الاصل بالعربية وأن كاتبها مغربيّ وأن «النص» المقدّم ليس سوى محاولة لترجمة الاصل العربيّ الى الاسبانية... ثم وقعت أسير الغواية... سهرت معها ليلتها أقلّب الصفحات خائفا من أن تتفتّت بين اصابعي... من ليلتها ودون كيشوت صديقي، وجهي الباطني المقيم في شروخي العميقة... ولا أخال قارئي اليوم وغدا الا وهو يتمنى ألا يخلو زمنه من «دونكيشوتات»، يؤمنون بأن الفرح ممكن، وأن الحلم ممكن، وأن المعنى ممكن، وان الجمال والحرية ممكنان، وأن الهزيمة ليست هزيمة ا لقوة والسلاح بل هي هزيمة الارادة والمخيال، وأن النصر الذي لا يُولد في سماء «الفكرة» لا يمكن أن يرقص على سطح الارض... لا أخال قارئي اليوم وغدا وبعد غد، إلا وهو يسأل معي: والآن أيّها الرائع كافافي، بعد ان عثرت على برابرتك، ماذا نصنع بدون «دونكيشوتات»؟؟