اذا كان قدر «الأمة» تلمّس طريقها في ليالي السقوط، فإن «قرون الانحطاط» التي فصلتنا عن «غرناطة» مازالت تصرّ على عودتها. وهذه العودة حتما لا يمكن ان تكون من غير إعادة وعي «الذات» بالأمة ويقينها بالعالم الجديد. ولعل الحرية هي أول واقعة تنصبه في ذهن وذاكرة ومستقبل الأمة، أي أنّ شرط الوعي العقلاني بالذات والعالم يقتضي التأهب لمغادرة كهف «الاستبداد» الى استنارة الذات وممارستها الحرة خارج القيود التراثية التي كبلت عقلية الابداع وكرّست الاتباع لفكر الحاكم وثقافة الحاكم. وهو ما عبّر عنه محمد عابد الجابري في كتابة «نحن والتراث» قائلا: «لم تكن الفلسفة في المجتمع الاسلامي ترفا فكريا، بل كانت منذ ميلادها خطابا ايديولوجيا مناضلا، كان الكندي أول فيلسوف في الاسلام منخرطا بشكل مباشر في الصراع الايديولوجي الذي كان محتدما في عصره بين المعتزلة، ايديولوجي الدولة آنذاك من جهة، وبين أهل الغنوص وأهل السنة معا من جهة أخرى»(1). ذاك ما يجعل «الحرية» كواقعة فكرية لا يمكن للأمة ان تكون بلغتها في تاريخها باعتبار ان السياسي كان محددا دائما «للحق» أي أنّ الجدل القائم داخل التراث العربي الاسلامي ما كان ليوم واحد وفيّا لمنطلقاته الذاتية بقدر ما كان دائما وفيا الى فكر الحاكم دفاعا واستماتة على كرسي الحاكم، أو لم يكن تاريخ المعتزلة شاهدا على هزّات الفكر ذاته، ذلك أنّ الفكر الاعتزالي ظلّ في الحاضرة العربية رهين الانتشار بحسب أهواء الحاكم؟ إنّ تراثنا «العربي» ما عرف ليوم واحد فضاء الانعتاق من «النصّ الديني» باعتباره الأصل وما كان خلافه فهو من الفروع والتوالي، فلا عجب عندئذ ان يكون الفضاء العربي الاسلامي هو فضاء قياس الغائب على الشاهد واعتبار العقل على حدّ تعبير «الجابري»: «استثمار للنص وهو ما يسمّونه بالاجتهاد، فصار المعقول في عرفهم هو معقول النص»(2). إنّ الحرية تبدو عندئذ واقعة الافتقاد واقعة «تقزيم» ارادة الفرد فاذا هو فيها مجرّد موصى عليه تابع للآخر مما همش صوته وغيّب معقوليته عن ذاته وعن العالم. فكان غيابه في اختيار الحاكم واختبار منافعه في الوجود مهمشا في ظلّ «نظرية الحقّ الالهي» كنظرية تجعل الإله قائما على الانسان متقمصا زيّ إله صغير يدير الفعل والأمر. وتلك هي «طامة الفكري العربي» لا يؤمن بغير الثبات في الادّعاء على الانسان وعلى التاريخ، ويصرّ محمد عابد الجابري في كتابه «نحن والتراث» على اعتبار: الفكر العربي الحديث والمعاصر هو في مجمله فكر لا تاريخي يفتقد الى الحدّ الأدنى من الموضوعية... ينزّه الماضي ويقدّسه ويستمدّ منه «الحلول» الجاهزة لمشاكل الحاضر والمستقبل(3). ولذلك فلا يمكن للوعي العربي من «يقين بالذات» والعالم من غير توفّر المنطلقات التالية لبلوغ وعي جديد بالحرية والديمقراطية، وذلك رغبة من هذه الأمة لمعانقة «المعقول» كيقين يجدد طبيعتها ويؤكد إشعاع حضورها: * ففي مستوى وعيها بالحرية وجب على الأمة: أ إعادة وعيها بالانسان باعتباره كائنا راشدا، وهو ما يخرجه من منطق «الوصاية» عليه. ب إعادة وعيها بالعالم انطلاقا من اعتبار «العقل» هو منطلق الاشياء خارج «النص» في تجديده للفضاء الممكن للعقل، أي اعتبار «العقل» هو منطق أوّلي للأشياء ولتمثلاتنا عنها. ج إعادة الاعتبار لل»الآخر» باعتبار «المقياس» وليس العدوّ، أي الوعي بالاختلاف باعتباره مجددا لوعي الأمة بذاتها، وهو ما يقصي كلّ تصور عرقي للأمة ليفتح باب المصالحة بين الذات والآخر. * أمّا في مستوى وعي الأمة بالديمقراطية فتستوجب معقولية الذات والعالم ما يلي: أ اعتبار الآخر كمنطق مجدّل للذات يفترض بالأساس ترك الآخر يعبّر عن رأيه وهضم منطق الاختلاف كمنطق للديمقراطية التي لا يمكن بحال ان تكون خضوع الأقلية للأغلبية، بل هي ترك «الآخر» كأقلية يعبّر عن رأيه، وهو ما يمكن ان يخالف «المنطق السلفي» للديمقراطية كنظام «للشورى» ، الذي أشار اليه «عابد الجابري» في كتابه «الخطاب العربي المعاصر» في الفصل المعنون ب»الديمقراطية والأهداف القومية» قائلا: «كانت الشورى أو الديمقراطية في الخطاب السلفي ولازالت، تعي شيئا واحدا هو غياب «الاستبداد المطلق» الذي يعني تصرف الواحد في الكل على وجه الاطلاق في الارادة، ان شاء وافق الشرع والقانون وان شاء خالفهما، فيكون اتباع النظام مفوضا اليه وحده»(4). هكذا تكون الديمقراطية التي نصبو لها لتحديث الفكر العربي هي ضربا من ضروب التعايش البديل عن منطق سيطرة «عصبية الملك» عن الفرد ومحاولة جرّه للتنكر لخصوصيته الذاتية كموقف معبّر عن الاختلاف الايجابي مع الاخر. ب هذا المنطلق الخصوصي من التعايش يفرض بالأساس قيام وعي جديد ب»السلطة السياسية» واعتبار «الدولة» كيان غير مستقل عن إرادة الأفراد، أي محاولة تأسيس وعي بديل بالدولة كنتاج للارادة وللمعقول خارج ادّعاء سيطرة الانسان الواسطة للاله عبر النص الديني. ج وهو ما يفرض اضطلاع المثقفين بدورهم الريادي داخل مؤسسات الدولة، وضرب مقولة استقالة المثقف العربي عن السلطة، على أنّ هذا الدور لا يعني اعتبار المثقق وسيلة دعاية ايديولوجية للسلطة السياسية بقدر ما هو دعوة لتأسيس اضطلاع جديد لمفهوم السياسي كنظر تأسيسي لمعقولية جديدة لفهم «الجسم السياسي» كجسم قائم على ألفة الاجتماع وفق مقتضيات الاختلاف والوحدة، أي كنمط اختلافي لا يمكن ان يعود في آخر الأمر الاّ «للصالح العام» كصالح لا تختلف الأفراد في معقوليته. ذاك ما يمكن ان يؤسس الانسان العربي البديل كانسان تحجرت ثوابته، فما عاد يرى غير ذاته مما خلق فجوة بينه وبين عمى «ذاته» وسلطته على العالم و»اجتماعه». وقد لا يمكن ان تتأسس هذه «الارادة المعقولة» للأمة على العالم والاجتماع من غير قيام وعي جديد بالتكنولوجيا باعتبارها نمطا فكريا وممارستيا لا استقلال «لذات الأمة» من غير قيام وعي جديد بها. هذا الوعي يفترض قيام «تكنولوجيا بديلة» على غرار المحاولة اليابانية كمحاولة جريئة تكشف البعد العميق للذاتية اليابانية كذاتية استطاعت اكتساح الأسواق العالمية ونشر تعاليم جديدة «للغة العقل» ول»ممارسته». فالأمة عندئذ لا تستطيع قيام وعيها على غير «العقل ومنتجاته» وهو ما يفرض علينا جميعا الايمان بأن نشر البحث العلمي والتشجيع عليه هو ما يكسب «الذات» تيقنها من «خبرتها» ومن موقعها في الوجود. وإنّ في اضطلاع الأمة بخيباتها الماضية والحاضرة خير منطلق لتجديد وعيها بالذات وبالعالم، فهذه «الذات» ظلت تعاني من «نرجسية ذاتها» ومن وهم سلطة ذاتها وحاكمها على الوجود فكان ان طلّقنا العالم لأننا طلّقنا سلطة ذواتنا عليه، فالعالم ما كان للحظة بالنسبة إلينا سباقا مع الزّمن بقدر ما هو «ثبات» للحظة عشق لماضيها. فمشروع التيقن بالذات وبالعالم بالنسبة «للأمة» بحاجة لعادة تشكّل لحظات المعقول ومحاولة التدرب عليها، وعلى تمثلياتها للأشياء: شكّا ومنهجا وإرادة للتعقّل لاكتساح الوجود في مواضعته واجتماعه، وهو ما يشكل غاية لهذا المبحث الذي قد لا يكون قائما وطامحا للحضور من غير الاشارة الى جملة من الصعوبات الكامنة في حاضر الأمة والمتجذّرة في تاريخ فكرها. ماضي الأمة... طفولتها المعذبة إن حاضر الأمة وتدهور وضعيتها ليس بمستقبل عن ماضيها، ذلك أن ماضي الأمة يعج بمتناقضاتها، هذه المتناقضات تبرز في الخلط بين المرجعيات الدينية والعقلية المعرفية والسياسية. فقد كان همّ الفكر الاسلامي العربي هو تأسيس انسان وحضارة في الواقع والتاريخ، ولكن هذا التأسيس اصطدم بمعيق «ثابت» وهو النص الديني وأساسا القرآن والسنة وهو ما خلق فجوة بين المرجعية الأصلية والمرجعية المأمولة أي الانسان في الواقع والتاريخ. ولذلك فلا عجب أن يكون السلفيون متوجّهين الى عصر الخلافة الراشدية كقياس نموذجي لهذا التحضر المراد(5) وهو ما جعل كلّ محاولة لتجاوز طفولة المجتمع العربي الاسلامي تسقط في الاتهام في عقيدة الباحث ونواياه، وتاريخ الأمة وما احتواه من قتل للابداع باسم الزندقة خير شهيد على محاصرة الحرية وخصوصية الذات. من هذا المنطلق الرافض لكل تجاوز «لطفولة الفكر» تتأتّى أولى الصعوبات التي ترفض كل ايمان مستقبلي بذات الأمة ومعقوليتها، ولذا نرى أن في نظرتنا للتراث الفكري للأمة وجب الحذر، نظرا لاختلاط لعبة الدين بالسياسة ماضيا وحاضرا، فهذه السلفية تصرّ دائما على اعتبار الدين كنمط مرجعي لكل تحليلاتها وتجعله المصدر الوحيد لتشكل أمر الدنيا وهو ما يؤكد مجددا الفهم السيء للانسان للواقع للتاريخ يقول عابد الجابري في كتابه «نحن والتراث»: «إن القراءة السلفية للتراث قراءة لا تاريخية... فالسلفية تصدر في قراءتها من منظور ديني للتاريخ، يجعل التاريخ ممتدا في الحاضر منبسطا في الوجدان... ولما كانت الذات تتحدّد بالايمان والعقيدة فلقد جعلت من العامل الروحي العامل الوحيد المحرك للتاريخ، أما العوامل الأخرى فهي ثانوية أو تابعة أو مشوهة للمسيرة»(6). ها هنا تكمن معضلة التحرر، معضلة مغادرة الأرضية الواهمة كأرضية تعتبر ما هو كائن وما سيكون لن يكون بحال خير من الماضي، أي أنّ الماضي هو الذي يعذّب هذه الذوات، هو الذي يعيق حركة إرادية للذات. فاللحظة المعقولة كلحظة بديلة سوف لن تخضع للحظة لأوهام الطفولة، فالتوجه الديكارتي للعالم ما احتفظ للحظة واحدة بأوهام الماضي، بل أقام الذات والعالم وموضوعات بتطليق «الأنا» لكل لحظات الطفولة وأوهامها: يقول ديكارت في كتابه «التأملات»: «تبين لي منذ حين إنني تلقيت اذ كنت ناعم الأظافر طائفة من الآراء الخاطئة ظننتها صحيحة، ثم وضح لي أن ما نبنيه بعد ذلك على مبادئ تلك حالها من الاضطراب لا يمكن أن يكون الا أمرا يشك فيه كثيرا ويرتاب منه، لهذا قررت أن أحرّر نفسي»(7). تلك هي اللحظة التي غيّرت وجه العالم، لحظة مريدة أقيم عليها الوعي الجديد بالذات، لحظة غيّرت مسار الانسانية وأعطت الضوء الأخضر لفلاسفة الأنوار لتغيير نمطية «الاجتماع» لذا فلا حرج علينا ان نتشجع لحظة واحدة وأن نغيّر طعم حاضرنا وغدنا بالتنكر ل»عاهات» الطفولة، لأن كل فعل مريد بحاجة لغد لا لماض، ولأن كل نظر لا يلتفت الى جانبيه يصاب بوهم المكان والزمان، فلم لا ننظر لغدنا كغد «تحديثي» خارج زيف ما كنا حملناه، وما نحمله؟ ولم لا نعلن لحظة «شكّنا» كلحظة منهجية وإرادية نتيقّن من خلالها بذواتنا والعالم وموضوعاته خارج الانشداد لوهم التاريخ. معقولية العالم/// معقولية الذات: العرب... ومعقولية الغد إن الأمة اذا أرادت فلا سبل لها من غير مغادرة كهف «الماضي» وزيف منهج «نقله» فلسنا بحاجة للتأكيد على اختلاط السبل علينا في اللحظة الحاضرة، ولا نرى لذاك سببا غير «عمى» المنهج وغياب معقولية الذات لدينا، باعتبار أن هذه المعقولية هي معقولية تنظم ارادة العالم وفق تبصر يقينها بذاتها، فقولها ليس نسجا للغائب بقدر ما هو نسج للمعلوم، المعلوم هو المعقولية في اتباعها للغة العقل في مواضعتها للغة الطبيعة، او هي المقاربة لها، والمعقولية كسعي للاعتبار الآخر، مجدّلا لحرية الفرد وليس كضدّ له. والمعقولية ايمان بالدولة كإطار للمصالحة بين الذوات، فشرط المعقولية تطوير لها وتطوير لانفتاحها وايمانها، بقدرة الذوات على بناء أمتها. ولا نخال أمتنا لا تسعى لهذه «المعقولية» كشرط لولوج «الحداثة» اذ هي بكل مرارة ما كانت غير «هامش» استهلاكي لقيمها ولمعتقداتها. ولعل غاية هذا العمل هو بيان أولى ارتسامات الأمل الذي نسعى اليه: لحظة معقولة تجعلنا نعيد النظر في كل معتقداتنا وفي ترسبات ماضينا، أو لعلنا نقول ان لا مفرّ للأمة من لحظة يقينية بالذات تؤسس من خلالها وعيها بذاتها وبالعالم. إنتهى الهوامش 1 محمد عابد الجابري: نحن والتراث الطبعة الرابعة دار التنوير للطباعة والنشر بيروت لبنان. 2 محمد عابد الجابري: بنية العقل العربي المركز الثقافي العربي الدارالبيضاء المغرب 3 محمد عابد الجابري: نحن والتراث 4 عابد الجابري: الخطاب العربي المعاصر 5 عابد الجابري: الخطاب العربي المعاصر 6 محمد عابد الجابري: نحن والتراث 7 المرجع المذكور 4750 المراجع والمصادر 1 DECARTES: Discours de la Méthode suivi des Méditations - 1018/V.G.D Paris VI 1984. 2 Jean Pierre Vernant: Les Origines de la Pensées Gréque P.V.F. 3 كتاب التأملات. ديكارت. ترجمة كمال الحاج. سلسلة زدني علما. منشورات عويدات الطبعة الثالثة 1983. 4 مقالة الطريقة ترجمة جميل صليبا. 5 محمد عابد الجابري: «بنية العقل العربي» المركز الثقافي العربي الدارالبيضاء المغرب. يناير 86. 6 محمد عابد الجابري: «نحن والتراث» الطبعة الرابعة دار التنوير للطباعة والنشر. بيروت لبنان. 7 محمد عابد الجابري. الخطاب العربي المعاصر. دار الطليعة بيروت ماي 82 8 برهان غليون: اغتيال العقل دار المعرفة للنشر تونس 9 جون جاك شوفالييه: تاريخ الفكر السياسي. المقدمة الفكر السياسي والمدينة اليونانية ترجمة: محمد عرب ماميلا. المؤسسة الجماعية للدراسات والنشر والتوزيع. الطبعة الأولى 1985.