يرى توكفيل ان الديمقراطية هي المساواة في الواقع والحقوق والطبائع وانها تصبح تعودا ومزاجا وذهنية وان مثالها الصافي لا يوجد الا في امريكا التي عرفها وشهدها وليس في اوروبا زانه، حيث مازالت رواسب من الارستقراطية القديمة فيحصل امتزاج بينها وبين الديمقراطية. ويرى ان امريكا لم تشهد ثورة داخلية وأنها لا تحتاج الى ذلك هذا خلافا لفرنسا بالخصوص التي شهدت ثورة عارمة، وما الثورة الا لحظة انتقال من الارستقراطية الى الديمقراطية بعنف وهيجان. والثورة جرت في فرنسا وقبل قرن في انقلترا، لكن لم تحصل لا في النمسا ولا في المانيا ولا في اسبانيا، وهي اذ كانت تصارعا بين الطبقات فقد كانت ايضا ثورة على المؤسسات السياسية. صحيح ان الثورة الفرنسية في تطورها اتجهت بالاساس الى المساواة وليس الى الحرية. لكن المساواة تحوي افقا مهددا لذاتها لأن المساواة قيمة لا يمكن لأي مجتمع ان ينجزها. وفي هذا البون بين المجتمع ومعياره تتحول المساواة الى هدي او حماس اجتماعي، والاهواء الجامحة نحو المساواة دخلت في الذهنية الفرنسية، وهي موجودة بصفة هادئة في المجتمع الامريكي لأن المؤسسات تعطي الاولوية للمجتمع على الدولة. وعلى الرغم من هذا فالمساواة عامة مستحيلة في حيز الواقع، لكن وهذا ما لا يذكره توكفيل فهي تفتح باب الامكانات للفرد والمجموعات، وقد بينت الظروف فيما بعد أي في اواخر القرن التاسع عشر ان هناك أفرادا وصلوا الى القمة من لا شيء في ميدان الثروة وهو مطمح الامريكان. وفي اوروبا كذلك تطورت امكانات الصعود الاجتماعي لكن بمقدار اقل لاسباب متعددة منها ان الجديد احتفظ بقسط من القديم وأن القيمة الاجتماعية لم تكن تقاس هنا بالثروة فقط بل بعناصر اخرى كالثقافة ونمط الحياة وحتى قدر من الوراثة. ففي فرنسا لم تفتح ابواب السلطة للشغالين الا قليلا جدا ومنذ أمد قصير. بل إن المجتمع الغربي عامة اليوم أكثر محافظة من المجتمع العربي مثلا، حيث ان الثورات الاستقلالية او الثورات السياسية منذ نصف قرن كانت بالاساس ثورات اجتماعية في اتجاه تحويل السلطة من الطبقة الارسطوقراطية الى طبقات من اصل شعبي لممثليها قسط من الثقافة قليل وكانوا قديما او كان آباوهم فقراء ومحتقرين. هذا ما جرى في الجزائر وتونس وليبيا ومصر وسوريا والعراق... الخ. انما في بلداننا يسكت عن هذا التحول الاجتماعي الضخم بسبب الاجماعية الاسلامية، ولوجود العدو الخارجي ولأن السلطة السياسية هي كل شيء، وتتعالى على المجتمع فتتوارى المساواتية الجديدة وراء تضخم السلطة الا ان الطبقات القديمة قد اضمحلت في هذه البلدان. ورجوعا الى توكفيل نراه يطرح مشكلة الحرية، وقد باتت الان في المخيال الاجتماعي هي اسس الديمقراطية، فيرى أن في بلده طغت اهواء المساواة على حب الحرية لأن الحرية لا تطور الا اقلية من الناس، أولئك المشاركين في الحياة السياسية، وهذا خطر. على ان الديمقراطية خصوصا في امريكا تكوّن فكرا عموميا اي رأيا عاما بمعنى آراء ومشاعر، وهو مفهوم اقوى من مفهوم الثقافة الديمقراطية. أمريكا والفكر والعلم يعتبر توكفيل انه لا يوجد في امريكا فلسفة ولا علم نظري ولا يمكن ان يوجد لأن المساواتية التي تجعل الانسان مطابقا لغيره وكنسخة منه لا تؤهل ابناء هذا الشعب للاعتراف بقادة الفكر وبكبار الاساتذة لخروجهم عن القاعدة العامة ولكون الامريكي لا يعترف الا بعقله الخاص. ثم ان الاتجاه نحو الفعاليات الاقتصادية يشجع على البراغماتية وليس على التأمل المجاني. فليست ثمة ارسطوقراطية لها من الثروة وسعة ا لوقت ليتجه افرادها نحو الفلسفة والعلم النظري كما في اوروبا. والجمهور على كل حال لا يبدي اي احترام للعلماء بل يحتقر هذا النوع من العمل. يفسر اذن توكفيل الامر باستفحال الديمقراطية الصافية والذهنية النفعية التي كونتها، لكن بمزاج الشعب الامريكي. فليست كل الديمقراطيات على هذا المثال. لكنه يتناقض هنا ولا يعطي الحق الكافي للظروف التاريخية والاجتماعية: الطهوريون ضد بهرجة الحياة، دينامية الصعود الاجتماعي تخلق جوا مناوئا للفكر النظري الذي يحتاج الى وسط اجتماعي يتقبله، انعدام المدينة الكبيرة في تلك الفترة، الاصل الشعبي للعناصر المهاجرية الهادفة الى الانتقام من ماضيها المحموم. ثم ان الامريكان ورثوا عن الانقليز النزعة البراغماتية التي تقوى عودها في اوائل التاسع عشر بسبب غلبة الاقتصاد داخليا وخارجيا وضعف التقليد الفكري خلافا لحالة فرنسا ولما سيكون اليه الامر في المانيا بعد التحرر من نابليون عام . ان ما يلحظه توكفيل اذن لا يستقيم قط مع المساواتية والمزاج الامريكي ولا حتى بساطة هذا المجتمع غير المهيكل في زمانه، بل على فقدانه لاي تقليد او الاعتماد على التقليد الانقليزي الذي استبعد في التاسع عشر النظرية المحضة في الفلسفة والعلم بعد ان انتج في الماضي نيوتن وهيوم. وهذا مثلنا نحن العرب الان حيث دخلنا في الصراعات السياسية وفي تكوين الدول السلطوية كما اخيرا في ايديولوجيا الانماء فعاد العلم البحت والنظر محتقرا ومنعدما. وظاهرة الفراغ الفكري الامريكي باتت قائمة الى حدود القرن العشرين، ثم حصل تقبل العلم بعد هجرة الالمان ابان النازية او بعد الحرب العالمية الثانية. فالعلم الامريكي اتت به ادمغة اوروبية بل الى اليوم نصف العلماء الباحثين هم من اصل اجنبي هاجروا اخيرا من آسيا والعالم الاسلامي واوروبا بالطبع واكثر فاكثر من روسيا. ذلك ان العلماء لا يربحون مالا كبيرا وهمّ الامريكي الى الان هو ربح المال او عبادة الدولار، كما عاب ذلك عليهم فرويد في الماضي. والعالم ليس له اعتبار خاص في المجتمع فهو انما باحث في العلوم له صناعته، فليس هناك مجد علمي ومكانة خاصة في المجتمع للعالم والفيلسوف بصفة شخصية كبيرة تجلب الاحترام والتبجيل، ونفس الشيء يجري على الاديب. فالمشكلة اذن مستديمة لها علاقة بالماضي وبانعدام ماض عريق ولأن هذا الشعب شعب فتي في حركية مستديمة. على أن امريكا باتت الان معقل البحث العلمي وبزت اوروبا في هذا المجال لانها بلد ثري يعطي للبحث امكانات مادية كبيرة وانها اعتبرت ان العلم صالح لزعامتها في العالم وصالح للدفع بالصناعة والاقتصاد. والعلم صار الان مسألة مخابر وجامعات ومؤسسات وقد انعدم وجود نموذج العالم العبقري مثل انشتاين وبور وبلانك وماكسوال وروترفرد وغيرهم. لقد صار عملا جماعيا ومقننا. على ان العلم يؤدي الى التقنية والتقنية امر براغماتي. وهذا ليس من صفات الفلسفة ولا الفكر النظري. في زمن توكفيل وقبله برز مفكرون سياسيون من رجال الفعالية، من امثال ماديسون ودجفرسون وحتى من قبل واشنطن الذي تبقى رسالة وداعة اثرا رائعا. هذه امة فتية بصدد التكون وقد ارست الديمقراطية وبنت المجموعة المتلاحمة. لكن في ما بعد، عندما تضخمت الثروة وتضخم عدد السكان وباتت امريكا قبل الحرب الاولى بلدا كبيرا وقويا، وعندما تمايزت الطبقات في الواقع، بل وبرز اهتمام من الاثرياء برعاية الفنون، لم يبرز ولو فيلسوف واحد باستثناء وليم دجامس وهو ايضا من المدرسة البراغماتية وليس من اصحاب الهاجس الميتافيزيقي، فلم يبق له الآن شأن يذكر. عدا ذلك وطوال القرن العشرين فلا شيء اي العدم، بينما زخرت اوروبا بكبار الفلاسفة من هوسرل الى هايدغر الى سارتر الى فوكو وغيرهم كثير الى حد الان لدى الالمان والفرنسيين والنمساويين الذين انتقلوا الى انقلترا. وقد عوّض الامريكان الفلسفة بالعلوم الاجتماعية والانتروبولوجية وحتى التاريخ، لكن الاولى منها علوم براغماتية مفتقدة لأي عمق، اما التاريخ فهو ليس بالتاريخ المفكر فيه على نمط المدرسة الفرنسية مثلا. وعندما برز مفكرون في الفلسفة السياسية وأفضلهم ليو ستروس، فقد كان منعزلا ومنبوذا الى حد ما. ويكثر الحديث الان عن تايلور، لكنه انقليزي هاجر اخيرا الى الولاياتالمتحدة، كما يكثر الحديث عن رولز صاحب نظرية العدالة، لكني لا أرى فيه أية عبقرية ولا بالاحرى اية لماعة. انما الامريكان يفتحون الباب على مصراعيه لاصحاب الفكر ويترجمون الجيد من اعمالهم كما يتحمس لهم الشباب في الجامعات. الديمقراطية والأدب كل ما كتب توكفيل بخصوص الادب من نثر وشعر وخطابة ومسرح يرجع الى ثنائية ديمقراطية / ارسطوقراطية، اي امريكا من جهة واوروبا او اليونان القديمة من جهة ثانية. فيبدو تفسيره للظواهر من خلال هذا المنظور مقنعا وذكيا لاول وهلة، لكنه غير كاف دون شك. في أمريكا الكتب موجودة بكثرة في المكتبات لكن كلها مؤلفة من طرف الانقليز والانتاج المحلي ضعيف وحتى من يكتب من الامريكان فحسب النموذج الانقليزي اي الارسطوقراطي في اخر تحليل. ثم ان في اوروبا طبقة ميسورة تستهلك الانتاج الادبي الراقي ولا تقبل غيره كما ان فئة الكتاب بحكم ضوابطهم وتقاليدهم لهم قواعد ملزمة وحس بشرف مهنتهم وهذا ما لا يوجد في امريكا حيث يقرأ الكتاب للتسلية وحيث يلهث المؤلف على الربح وهو مع هذا يبقى محتقرا. ان الكاتب الحقيقي في امريكا هو الصحفي. ان هذه الملاحظات تبقى وجيهة الى حدود الخمسينات من هذا القرن وحتى الى اليوم فيما هو اساس. فقد أنجبت امريكا كتابا وشعراء في ما بعد توكوفيل بدءا من النصف الثاني من القرن التاسع عشر من امثال مارك توان ووالت ويتمان وجيمس وفي القرن العشرين همنغواي وغيره وقد تكاثر عددهم وكان منهم الروائيون الافذاذ. الا أنه لم يحصل اعتراف واسع بهم في بلدهم الا بعد الحرب العالمية الثانية وبعد ان توجتهم اوروبا. فقد وجد رفض مبدئي للانتاج الادبي فلم يعيروه اي انتباه ليس في رأيي بسبب الديمقراطية بل بسبب غياب اي تقليد ولأن الكاتب هنا شخص متمرد، واخيرا لأن البرجوازية الثرية والمتوسطة مادية بصفة مذهلة. الى حد هذا ا ليوم لا يمكن ان نقول بوجود معنى للثقافة في هذا البلد او حب الثقافة عام مثلما يوجد في اوروبا. وعن حق يقول توكفيل ان الحضارات لا تسقط فقط بمفعول هجمات البرابرة بل وأيضا بضعف المطمح الثقافي وانحلاله ان وجد سابقا. وهكذا يجب ان يفهم العرب ان انبهارهم بامريكا لا مبرر له خصوصا وهم يفكرون دائما سياسيا وماليا وبعلاقات القوي، وصاروا ايضا شعبا ماديا للغاية ودينيا ومتأدلجا. لكن الفارق ان لهم ماضيا نسوه وانهم ليسوا بديمقراطيين مثل الامريكان على الاقل بين بعضهم.