كاتب جزائري مقيم في باريس صدر للدكتور خليل النعيمي كتاب جديد بعنوان «مخيلة الأمكنة» في القاهرة، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب سلسلة «مكتبة الأسرة» ويقع في 232 صفحة من الحجم المتوسط. وهي مجموعة نصوص كتبها خليل اثناء رحلاته في مجموعة عواصم او بلدان عربية وغربية، ولا نستطيع اعتمادها كدليل سياحي، نحن امام نصوص ابداعية، تتعمق في الأمكنة وفي وجدان الكاتب وآفاقه الفكرية والثقافية والأيديولوجية، والمعروف عن خليل بالاضافة لكونه جراحا ماهرا فهو شاعر وروائي، لكن في «مخيلة الأمكنة» نقف عند خليل الفيلسوف والحكيم، كما نقف مع خليل القاص، فهو يستعمل ال «أنا» الساردة التي تحكي مشاهداتها بعينها هي، وليس بعيني الآخر، اي ان السارد (خليل) هو الذي يحكي ويتعامل مع شخصيات وأمكنة نتعرف عليها من خلاله، وبالتالي يرصد لنا حركة المكان (الأمكنة) كما اراد ان يشاهدها وان يعايشها لا كما تفرض نفسها في الواقع العملي الحقيقي، لذا فإن مجموعة النصوص التي تكون كتاب «مخيلة الأمكنة» تقترب الى القص، بحكم حضور مجموعة من المحاور التي تشدها معا، ولعل اهمها هو البحث عن المكان الساكن في السارد، هذا المكان الرابض في الكائن، والذي يفرض نفسه شعوريا او لاشعوريا. وبالرغم من ان تقديم الأمكنة في «مخيلة الأمكنة» يأتي مرتبطا بتقديم الشخصيات فإن هذه الاخيرة لا تخضع كليا للمكان، بل العكس هو الذي حصل اذ ان الأمكنة في هذه الحالة هي التي سيوكل اليها مساعدتنا على فهم شخصية خليل. ومن هذه الناحية يمكن اعتبار الفضاء بمثابة بناء نصي يتم انشاؤه اعتمادا على المميزات والتحديات التي تطبع الكتابة القصصية، بحيث يجري التحديد التدريبي ليس فقط لخطوط المكان الهندسية وانما ايضا لصفاته الدلالية. فهو الذي يحكم هذه الصلة الوشيجة التي تجمع الشخصيات / الأحداث بالمكان ويوجهها. وهكذا تبدو العلاقة بين الذات المبدعة والفضاء الذي تنتجه، بحيث يغدو المكان شخصية مجازية تمثل امتدادا يساهم في تحديد إطار العمل الأدبي ويطبعه بالطابع الشعري، وتتحقق المعادلة التي طالما يحلم بها الناص حيثما يوصف المكان يوصف الانسان الذي يبث فيه الروح، وحينئذ يحول عنصر المكان الى خزان حقيقي للأفكار والمشاعر، وتنشأ بين خليل والمكان/ الشام علاقة يتحول فيها المكان الى عنصر مشارك في السرد، يتعامل الكاتب معه تماما كما يتعامل مع الشخصيات العاملة في النص. ولا يكفي ان نبحث في تمفصل المادة المكانية في هذا المؤلف، اي توارد الوصف الطوبوغرافي وانتقال الشخصيات داخل ذلك المجال، المحدد، بل يجب علينا ايضا ان نحاول الكشف عن العلاقات البنيوية العميقة التي توجه النصوص وترسم مسارها. بمعنى آخر، المكان الساكن في خليل، الذي حين نقرأ مقولته التي يبدأ بها كتابه والتي يقول فيها: «سافروا.. سافروا، تكتشفوا المكان الذي تبحثون عنه، ذات يوم، فالمكان لمن يبدعه، لا لمن ينام فيه» غير اننا لدى قراءتنا لنصوص (قصص) خليل نجد ان المكان النائم فيه هو الشام. وهنا تحضرني مقولة للكاتب الجزائري مالك حداد يقول فيها: «ان التعرف على بلدان وشعوب مختلفة يتيح للمسافر فرصة للقيام برحلة في اغوار وجدانه اولا» واعتقد جازما ان هذه المقولة تنطبق تماما على الدكتور خليل، نراه يختتم نصه عن اليونان كالتالي، «لا، لم اكن اتصوّر ان صخر «اثينا» يثير اشجاني الى هذا الحد، وبلا وجهة محددة... وانا اتمتم «يا صخرة قد هيجت اشجاني، ذكرتيني اهلي وأضغاني، وأحس الدموع المنهمرة من عيني تغسل نفسي المحتقنة بها منذ سنين. انا الرجل القادم من بادية الشام..» فكما نلاحظ فإن بادية الشام تسكن خليلا، ويتذكرها، بل تدمع عيناه حنينا اليها. وحينئذ ليس هناك اكتشاف وانما هناك بحث عن الذات او تأكيدها عبر بناء صور /أخيلة المكان. لقد وجد كرستوف كولومب امريكا كما كان يريدها ان تكون. كانت هناك ضرورة لدى خليل في ان يؤكد الواقع المعيش ما كان ماثلا في الخيال، وكان المطلوب في هذه النصوص ان يوضع ما تمت معاينته على هامش ما تمت مطالعته. وهكذا فإن خليل لم ير إلا ما كان يعتقد، لقد سبقت الصورة الحدث. ويبدو ان الغاية ليست وصف المكان بل قراءة الأنا في مرآة ذلك المكان، وليست الغاية الذهاب الى البلدان المتعددة بل العودة الى الشام. وهكذا تشتغل نصوص الدكتور خليل النعيمي وفق رؤية يمكن تلخيصها كالآتي: الأنا اطار جغرافي للهناك، اذ لا توجد جغرافية امكنة في ذاتها، بل بالمقارنة مع جغرافية الذات/ الشام. كما تحيل بعض معالمها على معالم الشاب الساكنة في ذاتية خليل قياسا للمجهول على المعلوم وللغائب على الحاضر. الأنا / ذات الكاتب مرجع تاريخي تحركه الذاكرة المخيال الوصفي للأنا لا لوصف الآخر، وما الآخر والهناك الا مناسبة لإظهار الأنا وتجليه. هذا التصوّر للعلاقة بين الذات المبدعة للمؤلف والبحث عن الهناك/ المكان ينكشف عن تمثلات تحملها الرغبة العارمة في عرض اوجه العلاقة القائمة بين الكتابة والإبداع بصفة عامة وبين طرق اشتغال الذاكرة، ولعل احد تلك المعاني يتجلى عندما نحاول تمثلها من زاوية العلاقة والمكان، وهذا عين ما يشير اليه الناقد «كونديرا» عندما يقول: «كثيرا ما نجهل كنه ما نحياه» فالواقع ان المعيش يبدو دائما في وعي خليل بمثابة الماضي الذي لا يملك عنه سوى ذكريات متناثرة عن الشام. اما في نصه على «روما» فيقول في الصفحة: «المكان خلق للذكرى، لا للإقامة فيه» وهنا يريد ان يبرر مقولته التي افتتح بها مؤلفه، لكننا نراه يتقرب من المكان بطريقة اخرى، اي ان شامه هو مكان يتذكره ولا يقيم فيه، وهذه حقيقة، لكنه ربما في داخل اعماقه يقول لو كان العكس، لانه في ص 78 يقول: «في مساء روما الماطر، هذا ابحث عنها؟ لا. مطر «روما» الغزير الدافئ هو الذي ملأني بالحنين، الحنين الى امي» ورذاذ المطر كما ذهب الى ذلك بعض علماء النفس وتغنوا به، مما يؤكد ان الانسان بحاجة الى حنين كبير وخليل بحاجة ماسة الى لقاء الشام التي تعتبر امه المجازية. اما في ص83، فقد جاء نصه عن «عمان» يقول: «غدا سنذهب الى الصحراء، الى حلمي الذي رافقني منذ ولادتي في «بادية الشام» عن صحراء «الجزيرة» استعيض بصحراء عمان؟ وكيف لا نتعرى عن امكنة لم تعد تسمح لنا بالوصول اليها» وهنا يعلن خليل بأن العين بصيرة لا يستطيع الذهاب اليها، وهو ما يؤلمه اكثر. وهنا نبدأ في اكتشاف اللعبة، فلو زارها، هل يحن اليها مثلما سكنه الحنين الى بقية الأمكنة، او بالأحرى هل يحن الى الأمكنة الأخرى وهو في الشام. لقد وجدنا هذا الحنين وهذه المقارنات حاضرة في بقية النصوص، بل وينهي كتابه بنص قصير معبر جدا عن هيامه وتعلقه وحبه لبادية الشام، الى بلدة «الخابور» الرابضة في احدى صحاريها وبواديها، حنينه الى الحياة البسيطة التي عاش فيها اجمل ايامه، وهذا ما نستنتجه من بقية النصوص، ولا يبوح لنا به. وهنا نقطة التلاقي مع مالك حداد، اذ يؤكد خليل في نهاية «مخيلته» بنص عنوانه: «سلاما دمشق» حيث نقرأ في ص 231 ما يلي: «لم اكن اتصور اني بعد عشرين عاما سأكتب اليك بعيدا... كنت اتمنى ان اكتب فيك وعنك لكنني صرت مقتنعا، الآن ان اولئك الذين لا يتذكرون تاريخهم سيعيشون مرارته باستمرار، وهو ما صار مصدر خوف لي.. خوف يجعلني اتشبث بدقائق ذلك التاريخ العامر تاريخ المدينة العربية التي احببت» وها نحن نرى المدينة الوحيدة الرابضة في اعماقه والنائمة فيه، ويتحسر على فراقه الطويل لها وعن عدم زيارته إياها. انطلاقا من هذا نرى ان مكان «النوم» والحياة وممارسة طقوسها ليس كافيا للمرء البعيد عن مسقط رأسه، وهي نتيجة كما نرى تناقض مقوله خليل التي افتتح بها كتابه، وفي الحقيقة خليل الذي يقع او يدعم هذا التناقض، ربما قصدا، من ناحية تشجيع الآخر على السفر واكتشاف الأمكنة، وللعرب في هذا المجال باع كبير ويكفي ذكر رحلة ابن بطوطة التي لم تكن تدرس كمجرد رحالة بل كنص استراتيجي سياسي وجغرافي واجتماعي، واعتمدها الغرب حتى بداية القرن العشرين لكن رحلة خليل، هي الأخرى صرخة الكائن في ابتعاده عن مكانه وتعلقه به. اما المحور الثاني الذي يمكن استنتاجه من هذه الرحلة فهو محور الحداثة وهذا نراه عندما يزور فضاء أوروبيا او غربيا، يجد التناغم بين الفعل والواقع بين ما يقال وما يمارس اما عندما يرتاد فضاء عربيا او ما يصطلح عليه بالعالم الثالث، فهناك فرق شاسع بين الواقع وبين مايقال وهنا لا يستطيع غض النظر عن تهميش الانسان العربي وعن الغربة التي يعيشها بين النظرية والتطبيق وان كانت الحداثة نظرة فلسفية جمالية. والآن ونحن نأتي الى ختام هذا العرض علينا ان نقول ان الظاهرة التي تملك هذا المؤلف تسميها البنيوية منظومة او نسقا، وما نفعله ههنا هو مباغتة هذه المنظومة وهي تشتغل من الداخل، بحيث نطل عليها وهي تعمل بصمت، ونحاول القبض عليها وعلى القانون الذي يسير العلاقات التي تربط بين مجموع النصوص على اساس ان تكون القراءة اختراقا لنظام تأليف «مخيلة الأمكنة». ومما لاشك فيه ان الكتاب الذي بين ايدينا له وزنه نظرا للنتائج التي انتهى اليها، وتأتي اهميته ايضا من جوانب كثيرة لفتت النظر لجدتها ولجرأتها، حيث تمارس تأثيرها النافذ على المتلقي.