بقلم: وليد العربي - (جامعي) تتمثل الملاحظة الأولى في أن هذا السلوك الذي ينتهجه الفقهاء والإسلاميون بالمعنى الضيق للكلمة، ليس جديدا ولا هو غريب عنهم. فلطالما اشتكوا ورفعوا الأمر للقضاء قصد البتّ في مسائل متعلقة بالرأي وبالتعبير. فقد فعلهاعلى سبيل المثال شيوخ الأزهر في مصر سنة 1926، ضدّ طه حسين، وفعلها الإسلاميون ضدّ نصر حامد أبو زيد سنة 1995، وضدّ فؤاد زكريا. أمّا في لبنان، فقد تقدم عدد من العلماء والإسلاميون بشكاية ضدّ الفنان مرسال خليفة سنة 2000. وفي السودان تقدم الإسلاميون بقيادة حسن الترابي سنة 1988 بشكاية ضدّ الشيخ الفقيه محمد محمود طه. وفي تونس، رفع علماء الزيتونة شكاية ضدّ الشيخ عبد العزيز الثعالبي... اللجوء إذا إلى القضاء ضدّ المفكرين والفنانين أصبح يشكل سنّة الإسلاميين وقد يفسر هذا السلوك ربمّا بأنهم يعتقدون أن القضاء مازال يؤدي وظيفة شرعية تقليدية ويحاولون بالتالي إسترجاعه و تطويعه. أمّا الحداثيون فإنهم لا يلجؤون إلى القضاء إلا في صورة تعرضهم للعنف، وقد لا يفعلون ذلك.ومردّ هذا أن الحداثيين يرون أن الدولة وقضاءها يجب أن يحافظا على حيادهما في قضايا الفكر والرأي والتعبير وأن دورهما يجب أن ينحصر في ضمان الممارسة الحرة للتعبير. أمّا الملاحظة الثانية فتتمثل في أن عددا كبيرا من الفقهاء والإسلاميين بالمعنى الضيق للكلمة، إنتهازيون والغاية عندهم تبرر الوسيلة، غايتهم فرض رقابة على الضمائر وعلى العقول وعلى الحواس بالمنع والحجب وبجعل الاستحالة قانون الرؤية والسمع والكلام، أي بإعماء الأبصاروالبصائر وبصمّ الآذان وبإسكات الألسنة... أما وسائلهم لبلوغ هذه الغاية فمتعددة ومنها الإفتاء بالإقصاء كما حصل مع الشيخ علي عبد الرزاق ومع الطاهر الحدّاد ومنها أيضا اللجوء إلى القضاء اعتمادا على القانون الوضعي للدولة. فأغلب الفقهاء والإسلاميين ينكرون الدولة الحديثة والقانون الوضعي، ويرون أن هذا القانون يشكل نوعا من الضلالة وإن توافق محتواه مع الفقه الإسلامي، لأن أساس مشروعيته وتطبيقه لا يستند إلى الإرادة الإلهية بل إلى إرادة إنسانية أي إرادة الدولة ولأنه مدنس غير مقدس ولا أزلي، يمكن تغيير أحكامه في كل وقت.ولكن ورغم دنس هذا القانون الوضعي، فإن الإسلاميين لا يتوانون في الإعتماد عليه وإستخدامه لفرض رقابة على الضمائر وعلى العقول وعلى الحواس، وهم لا يترددون في استعمال مفاهيم حداثية لا قبل للثقافة التقليدية بها، كمفهوم الدستوروالقانون وحقوق الإنسان والديمقراطية وهم بذلك إنتهازيون، هدفهم الأول بلوغ غايتهم مهما كان دنس الوسيلة التي يعتمدونها في نظرهم. إن ما تشهده تونس، اليوم من جدل وخصومات بين الحداثيين والإسلاميين، ليس سوى حلقة من حلقات صراعات طويلة إمتدت على التاريخ الإسلامي. فقد انقسم المسلمون الأوائل في المستوى السياسي إلى أهل سنّة وشيعة وخوارج، ثم انقسم أهل السنّة في مستوي العقيدة والفكر، نحلاومللا كثيرة: أهل الرأي والمعتزلة والفلاسفة والإلهيون والدهريون والطبيعيون من جهة، وأهل الحديث والأشاعرة وأهل السنّة والجماعة والجبريون من جهة أخرى وقد كانت الغلبة، في كثيرمن الأحيان للتيار الثاني، المحافظ بعد تحالف مع أهل السياسة والعسكر، أي مع «دولة الخلافة» فطالت الملاحقات المعتزلة وتم اضطهاد الفلاسفة المسلمين فعشنا محنة ابن رشد... كما شهدت الساحة الفقهية صراعات بين المذاهب، لعّل أشهرها ذلك الصراع الذي عرفته القيروان بين أتباع المذهب الحنفي بقيادة أسد ابن الفرات وأتباع المذهب المالكي بقيادة الإمام سحنون، وكان النصر للمالكية فأقصوا الأحناف من مسجد عقبة... لم يكن الاختلاف والتنوع والتعدد في المجتمع الإسلامي، مؤشّر صحة وحياة، بل كان مجرد أمر واقع، لأن العقل العربي الإسلامي لم يؤصّله ولم يشرّع له، فتمّ حسمه، في أحيان كثيرة، بقوة السيف، إلى أن خفت صوت المسلمين منذ أواخر القرن الثاني عشر ميلاديا، بعد تحريم الفلسفة لأنها اعتبرت «ضارة بالدين» وإثر «غلق باب الاجتهاد» بعد اعتبار أنه «ليس بالإمكان أحسن مما كان». .. ثم عادت الصراعات مجددا بعد حوالي سبع قرون أي في أواسط القرن التاسع عشر وبالخصوص، في الشام ومصر وتونس، معاقل النهضة وحركة الإصلاح فقد تصدى مشائخ وفقهاء تونس لأمر أحمد باي القاضي بإلغاء الرق، سنة 1846 ثم نظموا حملة شعواء ضد الطاهر الحداد غداة إصدار كتابه «امرأتنا في الشريعة والمجتمع»، في ثلاثينات القرن المنصرم، كما أنكر جزء هام منهم مجلة الأحوال الشخصية أيام إصدارها في 13 اوت 1956، وعادوا اليوم لتبنيها معتبرين إياها عملا اجتهاديا مضيفين عليه، بعض القداسة التي قد تحول دون مراجعته وتطويره. وقد خفت لهيب المعركة في تسعينات القرن العشرين ثم عاد ليتأجج مجددا في أواسط العشرية الأولى للقرن الحادي والعشرين، لما سمح النظام السابق بعودة الحجاب إلى الفضاء العام وبدا وكأنه يشجع على حمله... ثم دشن النظام السابق، في شهر سبتمبر 2007، إذاعة الزيتونة التي خرجت من صلبه وكانت نتاجا لبنيته، فكانت هذه الإذاعة «الخاصة» تبث خطابا أشعريا تقليديا، غير عقلاني، يقوم على التسليم وعلى الاستسلام وكأنها كانت تريد أن توصل إلى المؤمنين من التونسيين، أن الاستبداد قدرهم. وكان هذا الخطاب منافيا للسياسة الحداثية التربوية لتونس.فنافست إذاعة الزيتونة المدارس والمعاهد والكليات في محتوى المعرفة. كما إستضافت البلاد في مارس 2009 في مدينة القيروان الشيخ يوسف القرضاوي الذي بارك السياسة الإسلامية للرئيس السابق في تصريح أدلى به للتلفزة التونسية. ثم وفي سنة 2010، تمّ تدشين «بنك الزيتونة «في خطوة أولى ربما «لأسلمة» الاقتصاد التونسي. ولم يتخذ الإجراءان الأولان المتصلان بالحجاب وبإذاعة الزيتونة انطلاقا من إيمان النظام السابق بحرية المعتقد واللباس وبحرية التعبير، بل كانا إجراءين يدخلان في إطار حسابات سياسوية، إذ أن طابعها الشعبوي غير قابل للإنكار، فكان القصد منها استمالة جمهور المؤمنين وهذا ما نجح فيه النظام السابق، فتكاثر حرفاء بنك الزيتونة في وقت قياسي. منذ زمن بعيد، دقّت نواقيس الخطر، وقد يقول البعض إن هذا التعبير من أصل كنسيّ مسيحيّ ولكن لا يهمّ. دقت أجراس الخطر الإسلاموي منذ شهر رمضان الفارط، أوت 2010، لما قام مجموعة من المحامين بقضية لإيقاف بث مسلسل النبي يوسف بدعوى تحريم التصوير والتجسيد... ثم لما شنّت، في شهر ديسمبر 2010، حملة شعواء على صفحات شبكات التواصل الاجتماعي ضد عدد من المفكرين والفنانين وفي مقدمتهم ألفة يوسف وقد تعلل أولئك الإسلاميون بمفهوم حداثي وهو حرية التعبير، لسب ألفة يوسف وشتمها و هتك عرضها وذهب بهم الأمر إلى إباحة دمها... إذن، استعملت حرية التعبير الأجوف ، التعبير عن اللاشيء، للقضاء على حرية الفكر والرأي والخلق والإبداع... والحال أنها كلها مفاهيم تنتمي إلى سجل الحداثة، وهي مفاهيم متكاملة، متناسقة، لا تتعارض، ولا تخضع لترتيب هرميّ تفاضليّ، وإلا فإن تغليب أحدها على الآخر قد يؤول إلى العنف وإلى الفوضى ومن ثمة الدمار، فالحرية حرية واحدة لا تتجزأ... !