إلى مدير سقيفة الشعر سابقا بيروتُ ليلا يمدح الشعراءُ موتي في مجالسهم ويرتعدون منّي حين أطلع بينهم صوتا وظلاّ محمود درويش (1) بضغطة زرّ من ريموت كونتول في يد قائد للعمليات تصبح تونس شاعرة. كأنّ دم الضحايا كان الضريبة الضرورية لينقلب الصيارفة شعراء ذوي خيال فادح. كيف يمكن أن تكون تونس شاعرة ومنظّم دورتها الشعرية قائد عمليّات؟ أمن غباء جينيّ سقط المنظّم في فخّ الانفصام الاصطلاحي أم أنّه مكر الشعر حين يحيق بغير أهله فيفضح الطارئين عليه عليه؟ ألا يدلّ هوس المنظّم بالقاموس العسكريّ على رغبة مكبوتة في ارتداء بزّة رسميّة وحمل عصا أو بندقيّة لسحق الكافرين بقداسة اللّات والعزّى ومناة الثالثة الأخرى؟ فعلا لا نعرف من نرثي: تونس التي أسلمت زمام شعرائها إلى قائد للعمليات أم شاعرا لم يعد قادرا على كبت صورة الشرطي التي طالما حلم بها في طفولته؟ تبلغ التراجيديا منتهاها حين يعبّر الشاعر من حيث لا يدري عن رغبته الدفينة في أن يكون شرطيّا أو عسكريّا. وتدخل التراجيديا شوط اللاتناهي حين تلحّ صورة الشرطية فادية حمدي على ذهن الشاعر. لعلّها حلُمت في طفولتها أن تكون شاعرة أو كاتبة. هكذا تكون قد انتصرت عليه في أرض الخيال ( أوَليست تلك مهمّة الشعر الأولى؟). كلّ شيء جائز مادام الرّيموت كونترول بيد قائد للعمليّات، ومادام سرب كامل من الشعراء يظهر أو يختفي بضغطة زرّ. كلّ شيء جائز مادام الريموت كونترول قادرا على توجيه القافلة حيث يريد القائد. (2) بضغطة زرّ من ريموت كونترول تصبح تونس شاعرة. هكذا تصبح الثورة مختبرا للأكاذيب. ثمانية أشهر من الأراجيف والتفاخر الكاذب كانت كافية « لتنتهي حكاية الحمامة التي شاءت أن تكون غرابا أو وُلدت في عُشّ الغربان ( العبارة للشاعر اللبناني عبّاس بيضون). يظلّ الأنقياء خارج المشهد وهم يرمقون بكلّ أسى حمامة يضطرّها صراخ الأغبياء إلى أن تغادر الغابة. نقاء الغابة لوّثه ضجيج المارش العسكريّ، مافي ذلك شكّ. نحن المؤمنين برهافة الشعر وخفوت نبرته كشرط جماليّ لاحترام دم الشهداء، يؤلمنا هذا الضجيج. خفوت النبرة الشعرية واجب أخلاقيّ، محاولة كيانيّة لكتابة غصّة أو غيمة في حلوق الأمّهات الحزينات. الحزن يورث غصّة في بياض حقل قطن شاسع. ذلك ما عرفناه في الرديف وأم العرائس قبل الناس بأربع شهداء ومئات الجرجى والمساجين. شهداؤنا يدقّون جدار الخزّان: « أين كانت غرفة القيادة الشعرية اللّعينة ونحن نموت مضعضعين من البرد والجوع؟ أين كانت قوافل الصيارفة المرتشين ونحن نُشيّع ليلا لنُدفن سرّا؟ أين كان الصيارفة الطيّبون؟ اسألونا نُجبكم: لم يقرؤوا لنا سورة ولم ينثروا حنطة، لم يملأوا طستَ ماء لطير يحطّ على قبرنا. اسألونا نجبكم: كان العالم صامتا عندما كنّا نموت. اسألوا عدنان الحاجي يجبكم..... لم تمرّ بنا القافلة لن تمرّ بنا القافلة ! (3) عقدة الموطن هي التي جرّت قائد القافلة إلى التعبير اللاإرادي عن هلعه من حقائق التاريخ وسطوة الجغرافيا. بضغطة زرّ يحاول القائد تحويل كومونة الرافضين من الرديف إلى الناصية الأخرى، حيث رعاع المنتبذين بأطراف بقاع ومساكن أغمارٍ، وحيث بامكان صيارفة الشعراء أن يموّهوا على الأغبياء فيحصلون من ذلك على معاشٍ. ينبهّنا ابن خلدون إلى أن هذا الصنف من الأوباش أخسّ الناس حرفة وأسوأهم عاقبة، فهم سرّاق أشرّ من السّرّاق. ما فهمه قائد العمليات لحسن حظّه أنّه لا إمكان لتدليس ثوريّ هنا، في الرديف. فناسُها أعرف بالصادقين من الصيارفة المتكسّبين. هذه مسألة عمليّة اضطرّته إلى دفع قافلته بعيدا عن أرضنا. القائد ماكر بما فيه الكفاية ليفهم أيضا أن غرفة العمليات الشعرية للثورة التونسية لم تكن غير قبر الشعر أبي القاسم الشابي في روضته التوزرية. من تحت التراب وجّه أمره الشعريّ للمتظاهرين ليسقطوا الطاغية. أطلقها صيحة من قبره فردّدتها الحناجر في كلّ ساحة ثائرة: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر في أرض الجريد لا إمكان لأيّ تدليس شعريّ. هذه مسألة معرفيّة اضطرّت القائد إلى صرف قافلته بعيدا عن أرض الجريد. تسير القافلة مزهوّة بطواويسها. « لكن العالم لن يلقي بالا لكلّ ذلك. سيرمقهم بكلّ شفقة، لكنّه لن يبالي إذا اصطدموا بحائط الهراء». (4) يحكّ القائد مصباح الزّنك، فيكون دخانٌ من كبريت وسِخامٍ. تخرج أطياف سوداءُ بلون القار وحمراءُ بلون القرميد. في لمحة عيْن تنتظمُ الأطيافُ مشكّلة سارية من جُند منضبطين. أوَليْس المشرف عمّا سمّوه تظاهرةً قائد عمليّاتٍ؟ الجُندُ طزز السّحنات اللّوح ينتظمون اثنين اثنين ويسيرون على أمر المارش: واحد اثنين واحد اثنين واحد اثنين قافلة الجُند عفوا قافلة الشّعراء تسير مدوّخة في الرّمضاءِ.....