(1) يشير الفيلسوف والمفكر الإيراني المعاصر دريوش شايغان Daryush Shayegan في كتابه « ما الثورة الدينية؟ الحضارات التقليدية في مواجهة الحداثة» إلى فكرة في غاية الأهمية يسمّيها بأدلجة المأثور», و هي فكرة تخترق كموقف مرضي جل مظاهر ثقافتنا و إنتاجنا الرمزي و أساس هذا الموقف التورط في معالجة التاريخ تورطا يوهم بالقدرة على رفضه و إنكاره و تجاوزه من خلال استعادة أدوات الأيديولوجيا و استعمالها دون أن نكون مساهمين حقيقيين في صناعة هذه الأيديولوجيا، وأدلجة الميراث لا تقوم إلا على اعتناق الأيديولوجيا في ما هي وعي زائف... ويذهب الأمر بشيغان إلى مراجعة الشعرية بوصفها المنتوج الرمزي الأكثر بروزا في ثقافتنا القديمة والحديثة، ويرى شايغان أن مواجهة الأيديولوجيا والكشف عن مكرها في النص الشعري () يعد في الحقيقة معيارا للنص الشعري الجيد الذي لا تفوح منه الأيديولوجيا. (2) أمام هذه المقولة أفكر في ما كتبه الشاعر الفلسطيني الرّاحل محمود درويش، وأسأل إلى أي مدى كانت شعرية درويش قادرة على مخاتلة الأيديولوجيا والقفز وراء أدلجة المأثور خاصة وأنه الشاعر العربي النموذج الذي كتب مدونته الشعرية في أتون الصراع الوجودي والحياتي الذي فرض عليه «إلتزاما» بقضايا شعبه الشعب الفلسطيني وحال أمته العربية في مواجهة الانحطاط و النكبة والهزيمة، والإستيلاب التاريخي... قلت إنني لم أعثر في مدوّنة هذا الشاعر الفلسطيني العربي الكبير، وهو المدرك من موقعه التاريخي والجغرافي، على ما يمكن أن يكون الشّعر محملا لأدلجة الموروث ولهذا الوعي الزّائف الذي يختزل الوجود ومواجهته بالشّعارات القاتلة وبمآثر الهويّة الزّائفة رغم أن شعره مدفوع بالطبيعة وبالقوة إلى مواجهة الآخر العدو الذي سرق ماءه وترابه وهواءه وطفولته وأسماءه الحسنى، قلت لا أذكر لدرويش من هذه الأدلجة التي انساق لها معظم الشعراء العرب المعاصرين الذين كانت مدوناتهم الشعرية صدى للشعارات والعبارات الصاروخية الطنانة التي تدك الوعي والروح وتحجب الرؤية عن حقائق الأشياء... فدرويش لم يدع للكراهية ولا للحقد الأعمى ولا لإقامة محرقة لهذا العدو و رميه في البحر، بل أن درويش نزع كل أسلحة هذا العدو وجعله عاريا في صحرائه الباردة... وأكاد أقول إن درويش نجح في «أسر» هذا العدو ليعيد إليه إنسانيته المفقودة بحكم نفس هذه الأيديولوجيا التي حركت وتحرك هذا العدو فقد قناع الجلاد وورقة العورة نافذا في عزله إلى النّخاع. (3) وأكاد أقول إنه ثمة خلل ما، خلل لابدّ من تأمّله وفهمه ومعالجته، حين نقرأ مدوّنة جديدة لشاعر تونسي شاب عنوانها «منشورات سرية لحرق اليهود «أو» النازي الأخير The Last Nazis-» وضع له تقديما نسبه إلى أدولف هتلر... والكتاب أو الديوان عبارة عن مجموعة من الشّذرات الشعرية النثرية التي تردّد إعادة محرقة اليهود بلغة موغلة في التحريض والتشهير لا نكاد نسمعها إلا في الخطب العنصرية... وأكاد لا أصدّق ما أقرأه في هذا الكتاب، أنا على معرفة جيدة بشعرية هذا الشّاعر الشاب الذي يمتلك صوتا شعريا متفردا يندر مثيله، وقدرة على اجتراح المعاني في الشّعر الخاص في ما هو تأمل وشغف وانكسار... لا أكاد أصدّق من هو قادر على قول مثل هذا الشعر: «من بعيد. أسمع وقع ارتطام نهدك الأيسر على صدر الليل. أسمع قلبك يقلب كتاب أيامه الماضية. أسمع ذلك الذي كان يتعثر بيننا، مع كل نجمة تسقط فجأة. أسمع أسرابا من الفوضى تتدلى على أكتاف الكلمات. أسمع الزبد الذي سوف يبقى على سريرك... أسمع نصفك المكشوف يرشح ملء إناء الليل». ومن هو قادر في نفس الوقت على قول كل هذه الكراهية والفظاعة: «اليهود يستحقون المحرقة، لا أكثر ولا أقل، «أو» استنساخ الهولوكوست بات مطلبا إنسانيا طارئا، أهم بكثير من نعجة دولي «أو» كي أقنعكم أني النازي الأخير. ها أنا أمجد المحرقة نيابة عن قلب هتلر العظيم «أو» أنا لست أقل من ذلك الفدائي الخالد الذي يزلزل روحه بضغطة زر...» (4) أكاد لا أصدق كيف يمكن الإنزلاق بهذه الصفة المدوّية في الدّعوة إلى الإبادة العرقية والعنصرية، والإنزال الحر إلى هذا الانفلات الفوضوي الذي يمكن أن يلتبس بعقل الشاعر ووجدانه وإلى هذه العدمية القاتلة التي ترى العالم من ثقب الإبرة إلى اللعب بعود الثقاب. و أكاد لا أصدق كيف يكون مثل هذا القول المنسوب إلى الفن والشّعر والرّؤية أن يتخذ من هذه الشّعارات أساسا للشعر ويمدّ يده مصافحا خطابات تملأ ساحاتنا و تملأ فضاءاتنا العمومية، يتداول على صياغتها فقهاء الليل الطويل الجاثم على صدر الأمة وسدنة السّراطية ( الأرتودكسية ) التي ترى في العالم - وهي المصابة بعماء الألوان - بيضا أو سوادا وتهدد العالم كل ليل بخطابات تأتي من الكهوف. أكاد لا أصدق كيف يمد الشاعر يده ليصافح من ساهم في فواتنا التاريخي وموات عقولنا وتأبيد الزمن القروسطي في علاقتنا بالوجود. (5) أستذكر الشاعر الأمريكي العظيم عزرا باوند Azra Pound، الذي انتصر سياسيا في ثلاثينات القرن الماضي إلى فاشية موسيليني قبل أن يصاب بالجنون ويموت موته المؤلم، ولعل انتصار عزرا باوند كان انتصارا للشعر اللاتيني قبل إنتصاره للفاشية، ولا أذكر أن باوند ساوم حول مهجته الشعرية و ألقه الإنساني المتوهج، ولا أذكر أن عزرا باوند قد دعا إلى الكراهية أو العنصرية أو العرقية أو إلى التفوق الحضاري. إن ما نقرأه من هذه الشعارات والدعوات في المقول السياسي والشعري ليس إلا إيغالا في القبول بهذا الوعي البائس الذي نراه أي أدلجة الهواء الذي نتنفسه، وليس إلا ذلك التمرين الرديء الذي يسميه الكاتب الإيراني فريدون هويدا «التلذذ بتبديد الرصيد الإنساني» الذي نحتمل اليوم وجوده. ما العمل؟ سأعود إلى شعرية درويش خارج الكراهية خارج المحرقة. () أنظر مقدمة الدكتور محمد الرّحموني مترجم كتاب داريوش شايغان « ما الثورة الدينية؟ دار الساقي، باريس 2004.