استقّر ابن خلدون في غرناطة وأذن له السّلطان في استقدام عائلته من قسطنطينة لكن مرّة أخرى يتحرّك الحسّاد بالدسّ والنميمة فيوغرون صدر صديقه الوزير لسان الدين بن الخطيب عليه ويصوّرون له ابن خلدون كمنافس سيبعده عن الحكم ويحتلّ مكانه . ويقول ابن خلدون عن هذا «ثمّ لم يلبث الأعداء وأهل السعايات أن خيّلوا الوزير ابن الخطيب من ملابستي للسّلطان،وإشتماله عليّ، وحرّكوا له جواد الغيرة،فتنكّر، وشممت منه رائحة الانقباض، مع استبداده بالدوّلة، وتحكّمه في سائر أحوالها». وفي هذه الفترة من الجفاء مع ابن الخطيب وصلته رسائل حاكم بجاية الذي أستولى على الحكم في رمضان سنة 765 هجرية فاستأذن من ابن الأحمر سلطان غرناطة في السّفر والمغادرة فوافق له وأجزل له العطاء وودّعه برسالة كتبها الوزير ابن الخطيب بنفسه كما يذكر ابن خلدون في رحلته . ويذكر ابن خلدون أنّ عهدا بينه وبين أبو عبد الله محمد بن الحفصي يقضي بأن يوليه الحجابة إذا أسترجع ملكه وخطّة الحجابة هي أرفع خطط الدولة وفعلا ألتزم الأمير أبو عبد اللّه بما وعد به ابن خلدون وعيّنه خطيبا بجامع القصبة مع أنتصابه للتدريس لكن استقرار ابن خلدون لم يدم طويلا إذ نشبت الحرب بين السّلطان أبي عبد اللّه وابن عمّه أبي العبّاس وكلاهما من الحفصيين وخسر صديق ابن خلدون الحرب ممّا اضطره الى القيام بحملة لجمع الجباية من قبائل البربر لعلاقته الوطيدة بهم لدعم السّلطان . وبعد وفاة السّلطان أبي عبد اللّه في المعركة مع أبي العبّاس طلب أهل بجاية من ابن خلدون تولّي الحكم نيابة عن ابن أبي عبد الله الصبي لكنّه رفض ويقول في هذا «وطلب منّي جماعة من أهل البلد القيام بالأمر، والبيعة لبعض الصبيان من ابناء السّلطان، فتفاديت من ذلك، وخرجت الى السّلطان أبي العبّاس، فأكرمني وحباني، وأمكنته من بلده،وأجرى أحوالي كلّها على معهودها، وكثرت السعاية عنده فيّ، والتّحذير من مكاني، وشعرت بذلك، فطلبت الأذن في الانصراف بعهد كان منه في ذلك، فأذن لي بعد لأي، وخرجت الى العرب، ونزلت على يعقوب بن علي، ثمّ بد للسّلطان في أمري، وقبض على أخي، وأعتقله ببّونة، وكبس بيوتنا يظنّ بها ذخيرة وأموالا، فأخفق ظنّه، ثمّ ارتحلت من أحياء يعقوب بن علي، وقصدت بسكرة، لصحابة بيني وبين شيخها أحمد بن يوسف بن مزني وبين أبيه، فأكرم وبرّ، وساهم في الحادث بماله وجاهه». يتبع