مرّة أخرى تحاصر الشائعات والضغائن ابن خلدون فيقرّر الرحيل عن بجاية في اتّجاه واحة بسكرة في الجنوب الجزائري، وحين علم سلطان تلمسان بأمر ابن خلدون وما حدث له في بجاية كتب إليه سنة 769 هجريا يدعوه لتولّي الحجابة وهي كما ذكرنا أرفع خطط الدولة وكلّفه بانتداب محاربين لخوض الحرب ضدّ أبي العبّاس المستنصر . فاتّصل أبن خلدون بقبائل رياح وزغبة ودواودة وهي قبائل هلالية إستقرت في الشمال الأفريقي بعد أن أرسلها المستنصر لدين اللّه الفاطمي بمصر الى أفريقية في القرن الخامس هجريا لتنتقم له من بني زيري الذين أعلنوا انفصالهم في المهدية عن الخلافة الفاطمية في القاهرة كما تخلّوا عن التشيّع لآل البيت ونجح ابن خلدون في إقناع شيوخهم بمساندة جيش السّلطان أبي حمّو . ويقول عن هذه التجربة «وكان السّلطان أبو حمّو قد بلغه خروجي من بجاية ،وما أحدثه السّلطان بعدي في أخي وأهلي ومخلّفي ،فكتب إليّ يستقدمني قبل هذه الواقعة ،وكانت الأمور قد اشتبهت ،فتفاديت بالأعذار ، وأقمت بأحياء يعقوب أبن علي،ثمّ ارتحلت الى بسكرة، فأقمت بها عند أميرها ،أحمد بن يوسف بن مزني ،فلمّا وصل السّلطان ،أبو حمّو ،الى تلمسان ،وقد جزع للواقعة ،أخذ في استئلاف قبائل رياح ،ليجلب بهم عساكره على أوطان بجاية، وخاطبني في ذلك لقرب عهدي باستتباعهم ،وملك زمامهم ،ورأى أن يعوّل عليّ في ذلك ،وأستدعاني لحجابته وعلامته». وأرسل شقيقه يحي الى السّلطان أبي حمو لينوبه في خطّة الحجابة بعد أن ملّ التقلّبات السياسية ورغم الرسائل التي كانت تصله تباعا من السّلطان أبي حمّو تمسّك ابن خلدون بالتدريس والقراءة ويقول في هذا الباب «وتأدّت إليّ هذه الكتب السّلطانية على يد سفير من وزرائه ،جاء الى أشياخ الدواودة في هذا الغرض ،فقمت له في ذلك أحسن مقام ،وشايعته أحسن مشايعة ،وحملتهم على إجابة داعي السّلطان ،والبدار الى خدمته ،وانحراف كبراؤهم عن خدمة السّلطان أبي العبّاس الى خدمته ،والأعتمال في مذاهبه،وأستقام غرضه من ذلك ،وكان أخي يحي قد خلص من اعتقاله ببّونة ، وقدم علي ببسكرة ،فبعثته الى السّلطان أبي حمّو كالنائب عنّي في الوظيفة ،متفاديا عن تجشّم أهوالها ،بما كنت نزعت عن غواية الرّتّب، وطال عليّ إغفال العلم ،فأعرضت عن الخوض في أحوال الملوك ،وبعثت الهمّة على المطالعة والتدريس ،فوصل إليه الأخ ،فأستكفى به في ذلك ودفعه إليه». يتبع