مرّة أخرى يجد ابن خلدون نفسه في أوج الصراعات السياسية التي أنتهت به وراء القضبان في فاس ويقول عن هذه التجربة «أمّا أنا فكنت مقيما في فاس، في ظلّ الدّولة وعنايتها، منذ قدمت على الوزير، سنة أربع وسبعين، كما مرّ، عاكفا على قراءة العلم وتدريسه، فلّما جاء السّلطان أبو العبّاس، والأمير عبدالرحمان، وعسكروا بكدية العرائس، وخرج أهل الدولة إليهم، من الفقهاء، والكتّاب، والجند، وأذن للنّاس جميعا في مباكرة أبواب السّلطانين من غير نكير في ذلك، فكنت أباكرهما معا، وكان بيني وبين الوزير محمّد بن عثمان ما مرّذكره قبل هذا، فكان يظهر لي رعاية ذلك ويكثر من المواعيد، وكان الأمير عبدالرحمان يميل إليّ، ويستدعيني أكثر أوقاته يشاورني في أحواله، فغضّ بذلك الوزير محمّد بن عثمان، وأغرى سلطانه فقبض عليّ، وسمع الأمير عبدالرحمان بذلك، وعلم أنّي إنّما أوتيت من جرّاه، فحلف ليقوّضن خيامه، وبعث وزيره مسعود بن ماساي لذلك، فأطلقوني من الغد، ثمّ كان أفتراقهما لثالثه. ودخل السّلطان أبو العبّاس دار الملك، وسار الأمير عبدالرحمان إلى مراّكش، وكنت أنا يومئذ مستوحشا، فصحبت الأمير عبدالرحمان، معتزما على الإجازة إلى الأندلس من ساحل «أسفي» معوّلا في ذلك على صحابة الوزير مسعود بن ماساي لهواي فيه، فلّما رجع مسعود أنثنى عزمي في ذلك، ولحقنا بونزمار بن عريف بمكانه من نواحي كرسيف لتقدّمه وسيلة إلى السّلطان أبي العبّاس، صاحب فاس في الجواز إلى الأندلس، ووافينا عنده داعي السّلطان، فصحبناه إلى فاس، وأستأذنه في شأني، فأذن لي بعد مطاولة، وعلى كره من الوزير محمد بن عثمان، وسليمان بن داود بن أعراب، ورجال الدولة. وكان الأخ يحي لمّا رحل السّلطان أبوحمّو من تلمسان، رجع عنه من بلاد زغبة إلى السّلطان عبدالعزيز، فإستقرّ في خدمته، وبعده في خدمة ابنه محمد السّعيد، المنصوب مكانه، ولمّا استولى السّلطان أبو العبّاس على البلد الجديد، أستأذن الأخ في اللّحاق بتلمسان، فأذن له، وقدم على السّلطان أبي حمّو، فأعاده إلى كتابة سرّه، كما كان أوّل مرّة، وأذن لي أنا بعده، فأنطلقت إلى الاندلس بقصد القرار والدّعة، إلى أن كان ما نذكر. يتبع