1 «الزّريبة» في الرّيف هي مكان تحفظ فيه الماشية، وغالبا ما يكون دائرة محاطة بأغصان شجر شوكه طويل وصلب كالمسمار، تدعى الواحدة منه « الزّربة»، وقد توضع أغصان هذا الشجر حدودا بين الضّيعات لتحفظها من دوابّ الجيران. وقد اشتقّ مجتمع المدينة من تلك اللّفظة الرّيفيّة كلمات تبدو بعيدة عن الأصل، علاقتها به خفيّة لا تظهر إلا بعد تدقيق وفحص. فمثلا، كيف انتقل مدلول كلمة « الزّربة» إلى العجلة والتّسرّع، كما في عبارة الأمّ وهي تسأل طفلها المسرع في أكل طعامه: «علاش ها الزّربة؟» فيجيبها: «مزروب، أصحابي في الباب». ثم تناول التّصريف هذا الجذر، فأعطانا منه أفعال ماض ومضارع وأمر، بحيث صار له وجود فاعل في كلامنا الدّارج، وشحنة دلالية لا نلقاها عند غيره. فإذا قال المعلّم لتلميذه :«ازرب روحك»، فمعنى ذلك أنّ عليه بذل أقصى طاقته لإنهاء الواجب. ولن يصل إلى التلميذ نفس المعنى لو قال له المعلم : عجّل أو أسرع. « المزروب»، كما رأينا سابقا هو المتعجّل، وبالفحص لا نجدها ابتعدت كثيرا – مثل أخواتها- عن أصلها الرّيفيّ. مثال ذلك لو أخذ فلاّح « الزّربة» أي الشّوكة الصّلبة كمسمار، ونخس بها حماره البطيء، لارتعد جسمه، واهتزّت قوائمه، وثنى أذنيه إلى خلف، وبدأ يخبّ ثم يهرول ثم يجري، لأنّه «مزروب»، أي نخسته شوكة. ولو أن صاحب الدّوابّ أصابته إحدى تلك الشّوكات، وهو يرتّب الحظيرة لرأيته كمن لسعته نار أو لدغته عقرب يقفز عن الأرض، أو يجري يمينا وشمالا، أو يتلوّى ويتمرّغ على الأرض، لا يفكّر إلاّ في تسكين ألمه، لأنه «مزروب» بالمعنى الحقيقي للكلمة. 2 بعد الهياج العامّ الذي أحدثته الثّورة في المجتمع، وما صاحبها من قمع وبطش،ومن حرّيّات غير مسؤولة، برزت ظاهرة «المزروبين» بشكل لافت. فكأنّما شارك كل مواطن في الثورة اطمعا في أن يجد المدير الذي سامه سوء العذاب قد تبخّر أو هاجر، أو ليجد العمل المفقود واقفا ينتظره في الباب، أو ليجد أسعار السّلع انخفضت إلى النّصف، أو إن الترقيات المتأخّرة من سنين ستصل بعد أيام، أو أنّ تعبيد الطريق الصّاعدة إلى القرية سيبدأ بعد أسبوع، وأنّ...وأنّ... لكن لمّا مرّت مائتان وسبعون يوما، ولم ينجز مما طلبه المواطنون أيام ثورتهم، وما حلموا به ليالي طويلة، إلا القليل، أو ما أقلّ منه، فرغت قلوبهم من الأمل، وداوموا على الإضراب والاحتجاج، حتى لا يكاد يخلو منها يوم، وحتى لا يكاد يلبّي وزير مطلبا لمنظوريه حتى يأتوه بغيره. وعبثا حاول الباحثون والمختصّون شرح ظروف البلاد الصعبة، والعقبات الكبرى التي تعوق الاستجابة لطلباتهم في التوّ واللّحظة، ومهما حاولوا نصحهم بالصّبر والأناة، حتى تمرّ الأزمة الاقتصاديّة وتعود الثّقة إلى المستثمرين، فما أجدى ذلك فتيلا، ولا طمأنهم قليلا.فكلّ واحد منهم «مزروب» متلهّف ومستعجل، أصابته شوكة الغليان العام، فجسمه يهتزّ كالملسوع، وصوته يرتفع بمطالب يريد تحقيقها « توّه». 3 أما السّياسيّون فكانت أفضال الثّورة عليهم عظيمة، إذ أيقظت أغلبهم من سبات عميق، كما سمحت للمبعدين منهم أن يعودوا عودة المنتصرين، وإن بلا انتصار، ولا أكاليل غار، إذ المعركة حسمت في غيابهم وبدونهم. وأتاحت الثورة أيضا للأحزاب أن تنشأ كالفقاقيع، وأن يظهر منها من كان متخفّيا، وهذا من طبيعة الأمور بعد أن زال القطع والمنع والرّدع. لكنّ الفاعلين السياسيين فاجأوا الجميع بدخولهم السّاحة في سيارات فاخرة، ذات سرعة صاروخية، كأنّهم متعجّلون للفوز في سباق لم يعلن عنه بعد، غير مبدين اهتماما كبيرا بتأهيل المجتمع، ولا بتعويده على قيم المواطنة، والممارسات الدّيمقراطية، ولا بسطوا للناس برامج للنّظر والمناقشة، وعلى أساسها قد ترتسم لديهم ملامح المجتمع المأمول. فأول ما نطق به زعيم عائد من المنفى هو رغبته في الترشّح لرئاسة الجمهورية، ثمّ تبعه غيره باحتشام أكثر، وحتى الذين أخفوا رغباتهم لم يستطيعوا إخفاء أنهم «مزروبون» هم أيضا للوصول إلى السّلطة، إلى الكعكة أو بعض فتاتها، حتى أن بعضهم ارتمى في أول وزارة عرضت عليه رغم الشبهات الحائمة حولها. وبعد... هاهو موعد الانتخابات على الأبواب، وبعد خمسة أسابيع سوف تضع الصناديق كل «المزروبين» أمام كل ما احتطبوه بليل، من وعود وأطماع، وما جال برؤوس الحالمين وهي على المخدّة من آمال وأحلام. كذب الواعدون والموعودون على أنفسهم، ونافقوها بأن كلّ شيء يمكن تحقيقه «توّه».. فما أصعب ذلك... ويا خوفي عليهم بعد طلوع النّهار.