يتواصل الجدل داخل الساحة السياسيّة والفضاء العام التونسي منذ 14 جانفي حول آليات الانتقال الديمقراطي وتحقيق الإصلاح السياسي المنشود الّذي يقطع مع الماضي ويؤسّس لتونسالجديدة حيث العدل والمساواة وحقوق الإنسان، وحيث كذلك الديمقراطيّة. العديد من الأحزاب والنخب ومن الفاعلين السياسيين يُبشّرُون بمستقبل آت للديمقراطيّة في تونس، المستقبل الذي سيحجبُ سلبيات ومعوّقات الماضي وسيُساهم في عملية التأسيس والبناء الجديدة، وممّا تضمّنتهُ الخطب والبيانات والتصريحات أنّ تلك الديمقراطيّة المنشودة في حاجة لانتظار دستور جديد ومنظومة من القوانين والتشريعات وكأنّ ممارسة اليوم في هذه المرحلة الانتقاليّة تبقى في منأى عن تلك الروح والجاذبيّة نحو الديمقراطيّة. تتداخل في ممارسات مختلف الفاعلين السياسيين اليوم متناقضات عديدة تمتزجُ فيها الديمقراطية بنقيضها والإيمان بالرأي المخالف بعكسه والقبول بالآخر والسعي إلى نفيه وإقصائه. وتبقى الديمقراطيّة في جوهرها الحقيقي مُمارسة ميدانيّة وفعل ملموس قبل أن تكون نصا تشريعيا وقانونيّا ،وكثيرا ما نظّر خبراء التشريع والقانون أنّ القانون هو نتاج لحاجيات مجتمعيّة وثقافيّة أي إفراز لواقع معيش وإلاّ كان ذلك القانون مُسقطا محكوما عليه بالفشل قبل أن يُبّت في الكتب والمجلّدات ويُنشر بالصحف والمجلاّت أو تتناقله وسائل الإعلام المرئيّة والمسموعة. في مثل الحالة التونسيّة، الخارجة لتوّها من ثورة شعبيّة عارمة والتي تحيا على وقع المرحلة الانتقاليّة، تظلّ الصورة غائمة حيال حقيقة إيمان الفاعلين السياسيين بالجوهر الديمقراطي وسط تواتر سلوكات مخلّة بمعاني التشبّع بالأفكار الحداثيّة والمدنيّة في الاستماع إلى المخالف وتطارح مختلف المقاربات دون إقصاء أو نفي أو تهميش، بل إنّ الأمر تعدّى في الكثير من الأحيان إلى مستوى احتدام الجدل ليكون صراعا وصداما باللفظ وكذلك بالفعل هذا إلى جانب ما بلغهُ ذلك الجدل والصراع من تبادل للاتهامات وحتى التخوين والتجريح. حتّى ولو كانت البلاد في مرحلة انتقاليّة تبحث عن استعادة الشرعيّة الشعبيّة لمؤسّسات الدولة وهو الأمر المنتظر بلوغهُ يوم 23 أكتوبر القادم فإنّه لا شيء يُبرّر غياب السلوك الديمقراطي لدى جزء كبير من السياسيين والأحزاب، إنّ الديمقراطيّة تبدأ الآن ولا يجب أن ننتظر انتخابات المجلس الوطني التأسيسي ولا غيره من المواعيد السياسيّة حتّى نرى هؤلاء وأولئك يتواصلون في أجواء ديمقراطيّة حقيقيّة فيها الصدى ورجع الصدى ومختلف مظاهر التفاعل الإيجابي والبنّاء لتونس الّتي يُريدها الجميع أن تكون للجميع. إنّ القبول بالرأي المخالف وارتضاء عمليات النقد واتّساع الصدور بعضها لبعض والإيمان بأنّ الحقيقة ليست مملوكة لأحد دون غيره بل ربّما هي موزّعة بين أكثر من طرف وأكثر من جهة، إنّ تلك المعاني هي الأسس الصحيحة للبناء الديمقراطي وهي بالضرورة وقبل كلّ شيء سلوكات فرديّة ذاتيّة يجب أن تكون مُنغرسة في النفوس والعقول وغالبة على فعاليات ومناشط العمل السياسي والحزبي بل ويجب الدفاع عنها لكي تكون ملاذا للجميع دون استثناء أو استنقاص. وقد تخيبُ نظرة المتابعين لمستقبل الديمقراطيّة في تونس أو في غيرها من دول الانتقال الديمقراطي عندما تغيب الممارسات المؤسّسة لها عن أنظار الفاعلين السياسيين الّذين يبدو جزء منهم من خلال ممارساتهم وسلوكاتهم وكأنّهم على غير دراية بما في تلك الديمقراطيّة من إلزاميّة للتعدّد والتسامح والتشارك والعمل الجماعي والوفاق والتوافق ومدّ اليد إلى الآخر المخالف بإرادة صادقة لأنّها تلك هي الديمقراطيّة الّتي يجب أن تبدأ «الآن» دون المزيد من التأخير والإبطاء.