يدور هذه الأيام جدل بين مختلف الفاعلين السياسيين حول خارطة الطريق الممكنة للانتقال الديمقراطي في أعقاب انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، وقد بلغ صدى هذا الجدل قطاعات واسعة من الرأي العام الوطني الّذي غدا منقسما بين رؤيتين متباعدتين أولاهما تقرّ للمجلس الوطني التأسيسي كامل الصلاحيات التشريعية والتنفيذية والثانية تستهدفُ «تقييد» هذا المجلس بعدد من المهمّات وأساسا صياغة الدستور الجديد. إنّها لحظة هامة في المسار السياسي الجديد الذي دخلتهُ بلادنا منذ 14 جانفي المنقضي، لحظة المأمول فيها ليس ممارسة سياسة «ليّ الذراع» والبحث عن الانتصار وتحقيق الهزيمة بالطرف المقابل بل الأساس فيها التوصّل إلى حالة وفاقيّة تُنهي حالة الانقسام وتفتحُ السبيل إلى تحقيق كامل الضمانات لمواصلة النهج الإصلاحي وتنفيذ خطوات جديدة على درب القطع مع الماضي وبما يوفر أفضل الظروف للموعد الانتخابي المقرّر ليوم 23 أكتوبر المقبل، هذا الموعد الذي استحال أمرا محسوما ومحل توافق بين كل التونسيين والتونسيات بل ومحلّ ترقّب شعبي واسع ومنقطع النظير مثلما أكّدته ال1600 قائمة التي أتمّت إجراءات تقديم الترشح من بين الأحزاب والمستقلّين والتي تؤهّل لمُعاينة مشهد انتخابي وسياسي فيه الكثير من الجديّة والتنافس وتطارح البرامج والأفكار والبدائل. إنّها لحظة تاريخية فارقة معها ستتأكّد مرّة أخرى قدرة النخب والأحزاب على وجه الخصوص على إدارة ترتيبات خلاف في التوجّهات العامّة والآليات فحسب مادام أصل تثبيت الخيار الشعبي وتكريس إرادته والمضي فيه لإنجاح المسار الثوري هي مسائل متفق عليها. إنّ نقاط الالتقاء بين طرفي الجدل الدائر اليوم تبقى أكبر من النقاط الخلافيّة، وأنّ ما يحتاجهُ المشهد السياسي اليوم هو أوّلا وأخيرا تغليب المصلحة الوطنيّة العليا على كلّ الاعتبارات الشخصيّة أو الفئويّة أو الحزبيّة الضيّقة ومحدودة الأفق، وهو ما يجبُ أن تُنزّه عنه مختلف المقاربات والرؤى والتصوّرات سواء منها الداعية إلى الاستفتاء أو الرافضة له. إنّ الابتعاد عن منطق التخوين والتخويف والسباب وكذلك التخلّص من المواقف النرجسيّة والمنغلقة والانفتاح على الرأي المُخالف تبقى من أهمّ السبل الواجب إتباعُها اليوم من أجل تقريب مختلف تلك التوجّهات وتوحيد آليات الانتقال الديمقراطي المنشود بين مختلف الفرقاء. إنّها محطّة جديدة على درب «التدرّب» على التعدديّة والديمقراطية والإيمان بالرأي المخالف بعيدا عن كلّ نظرات الاستنقاص أو أساليب التشويه أو التشويش أو الإدانة دون براهين. ومن المؤكّد فإنّ الانتصار للحلول الوفاقيّة الأقرب إلى الواقعيّة وإلى إمكانيّة التحقّق والمنسجمة مع التواريخ والآجال المتّفق عليها سابقا واحترام الظرفيّة الدقيقة والحرجة التي تعرفها البلاد خاصة من الناحيتين الأمنيّة والاقتصاديّة والانتهاء إلى صياغة خارطة الطريق الممكنة والمعقولة بعيدا عن منطق المُحاصصات السياسيّة أو القراءات السيّئة والرديئة للنوايا أو سياسة الاعتداد بالنفس والغرور بأهوائها، إنّ كلّ تلك الخصال المحمودة هي التي يُمكنها لوحدها أن تؤمّن وحدة الصفّ الوطني وأن توفّر أفضل الأجواء والمناخات لانتقال البلاد إلى طور ديمقراطي جديد للجميع فيه حظ وحقوق ودور ومسؤوليّة.