مع الإقرار بأنّ البلاد تعيش فعلا مرحلة مهمّة في طريق الانتقال الديمقراطي، إن لم تكن هي مرحلة مصيريّة على اعتبارها المرحلة النهائية التي ستفضي في غضون سنة أو سنة ونصف إلى المرحلة الدائمة، مع ذلك الإقرار هناك مسألة أخرى على غاية من الأهميّة وهي المتعلّقة بحقيقة أصبحت واضحة للعيان وهي أنّ الممارسة السياسيّة لدى جلّ الفاعلين تشهد نوعا من الانحراف وتحتاج فعلا إلى عملية تصويب ومراجعة مؤكّدة حتى تُعاد القاطرة إلى سكّتها الصحيحة وحتى تسير البلاد قُدما نحو تحقيق أهداف الثورة التي ضحّت من أجلها أجيال متعاقبة وقدّمت لأجلها دماء الشهداء وتضحيات المناضلين الصادقين والشباب التوّاق إلى الحرية والكرامة. إنّ جملة الأحداث الجارية وردود الأفعال تنمّ عن أنّ جزءا كبيرا من النخبة التونسيّة ومن القادة السياسيين كذلك وكأنّهم مازالوا يتدربون على الديمقراطية والممارسة السياسيّة الصحيحة. ما تزال العديد من التحركات والشعارات والمطالب ملتصقة إلى الأهواء والرغبات الضيّقة والمحدودة ولا تضع في حسبانها مبادئ التعددية والإيمان بالآخر والقبول بالرأي المخالف ومقارعة الحجّة بالحجّة والتسليم بضرورات الحوار البناء والمسؤول القادر على النقد النزيه وعلى تقديم التصورات والبدائل التي تخدم البلاد ومستقبل أجيالها القادمة. إنّ مظاهر العنف والعنف المضاد وسلوك التحريض والتخوين ومنطق السباب وهتك الأعراض والاتهامات والتي لم تسلم منها أطياف العملية السياسيّة على اختلاف مواقعها تؤكّد ذلك المعطى والذي يُجمع المراقبون على أنّه الخطر الحقيقي الّذي يُمكن أن يُصيب أيّ ثورة أو عملية انتقال ديمقراطي في الصميم. إنّ الأحزاب السياسيّة والنخب مدعوة اليوم إلى ترشيد خطابها السياسي والدعائي وتنقيته من كلّ مظاهر التشويش والتوتّر وشوائب الفوضى والمتناقضات ودفعه لأن يكون خطابا مسؤولا وبناء قادرا على توجيه الرأي العام التوجيه الصحيح وعلى إنجاح مسار الانتقال الديمقراطي الّذي دخلته البلاد منذ يوم 23 أكتوبر الفارط. ومن المؤكّد أنّ الأطراف السياسية سيكون لها الثقل التاريخي والمسؤوليّة الجسيمة في تواصل مثل تلك الممارسات السيّئة والتي تعمّق من يوم إلى آخر الهوّة بين فئات المجتمع وجهاته وتربك ولا تزال نسق استعادة الاقتصاد لحيويته ونشاطه. فدون ذلك الترشيد للخطاب وتلك التنقية لعبارات وألفاظ المواقف والبيانات والشعارات ودون الرغبة الصادقة في خدمة الشأن العام والمصلحة الوطنيّة قد يبقى مسار البلاد محفوفا حقيقة بالمخاطر والمنزلقات. إنّها مسؤولية جسيمة على النخب والأحزاب أن تعيها الوعي اللازم وإلاّ فستكون هي المتسببة في مزيد توتير الأوضاع ودفعها إلى الأسوإ لا قدّر الله. إنّ الحراك السياسي وإدارة الشأن العام وتحسين أوضاعها وتجنيب البلاد مظاهر التوتّر والاحتقان هي مسؤولية أولئك أوّلا وأخيرا . خالد الحدّاد