يخيّل إليّ إنْ أنا أدمنتُ، يوما، أخبار فضائيّة غرّاء على سبيل الامتحان أنّ الثورات العربيّة المشتعلة من «مرّاكش للبحرين»، بصدد التحوّل إلى حروب للردّة حتّى لا أقول إلى حروب استرداد La Reconquista ! لا ينكر إلاّ جاحد الحجرة التي ألقتها هذه الفضائيّة العالميّة في مياه الإعلام الراكدة سنة 1996،كما لا ينكر إلاّ منافح عنيد التحوّل الذي انحرفت إليه منذ سنوات، ليصير للجماعات الدينيّة، بمختلف تعبيراتها، امتياز الرعاية في برامجها ونشراتها، حتى لا أقول إنّها غدت لسانها الناطق في بعض الأحيان. وكما أنّه قد يقال ربّ ثورة ولدتها صورة ! فإنّ هذه الصورة لم تكن في أحيان كثيرة صورة أمينة، أو تعكس ما يجري حقّا وفوق الأرض. ما تنزع إليه صورة «فضائيّة الجزيرة» – دع عنك الخبر والرأي – هو امتصاص الاختلاف والتعدّد والتنوّع في مشهد الشوارع العربيّة المنتفضة، وفي الفاعلين الاجتماعيّين في تلك الشوارع، وفي تحييد كلّ ما يعكس هذا التعدّد والتنوّع لصالح صورة أيقونيّة ذات لون واحد، وصوت واحد، ورمزيّة واحدة. ولعلّ الكثيرين من أمثالي لاحظوا كيف ينحرف مشهد الحراك الاجتماعيّ من التعبير على الاحتشاد والاجتماع لتصير معه الانتفاضات الجماهيريّة شيئا يذكّر بالفتوحات والغزوات والجهاد في سبيل الله، فهذه «جمعة الغضب»، وتلك «جمعة النصر»، وثالثة «جمعة العودة» ( ورابعة سمّيتُها جمعة العجب ! ). وهذه مظاهرة الرجال وتلك مظاهرة النساء بجلابيبهن السود، وهذه سريّة «خالد بن الوليد» وتلك «عصابة الغرباء»، وبالطبع مع ما يستلزم تلك الصورة الأيقونيّة شبه النمطيّة من أكسسورارت عمادها التكبيرات والأذان واللّحي والنُّقب، والصلوات في الفلوات ! قد يقول قائل إنّ تلك الصورة صارت الآن مبذولة في بعض شوارع سوريا أو اليمن كما كانت في ليبيا، وهذا صحيح، ولكنّ فعل التكرار والإبراز والتركيز الذي مارسته الصورة «الأيقونيّة» من بعض الفضائيات هو الذي خلق، أكثر ممّا سواه، المشهد الذي نراه اليوم.. ومع تنسيب الأمور، ومحاولة الحكم بموضوعيّة، وبانتظار تعديلات محتملة على الخطّ التحريريّ لهذه الفضائيّة العتيدة التي تضمّ كوكبة من الإعلاميّين المميّزين، ومنهم تونسيّون أثبتوا جدارتهم، ونعتزّ بهم وبصداقتهم، ولا نحمّلهم وزر ما نحن نشير إليه، لسائل أن يتساءل: أين نحن من حروب الصور التي تخاض داخل ديارنا، وهل تصلح القاعات الإخباريّة المنتجة لهذه الصور والأخبار والتعاليق والآراء نموذجا للاستفادة منه لتدبير اختلافنا في تونس اليوم؟ صحيح، ثمّة بداية لمصالحة بين التونسيّ وفضائه السمعيّ البصريّ، تعبّر عنها نسبُ المتابعة المتزايدة للنشرات الإخباريّة وللبرامج السياسيّة الحواريّة، في التلفزيونات المحلّية وفي الإذاعات أيضا. وهذا أمر لا بدّ من تحيّته، مع التأكيد على أهمّية تطوير الأداء الإعلاميّ على قواعد سليمة من التكوين الصناعيّ، والاستفادة من التجارب المهنيّة ذات الصيت العالميّ. برنامج «ساعة حساب» الذي بثّته «التلفزة الوطنيّة» في عدديْن الأسبوع الماضي، جزء من الحلول الممكنة لأدواء الإعلام الوطنيّ الذي أنهكته آفات الديكتاتوريّة والانتهازيّة والرداءة. يقوم البرنامج وهو إنتاج مشترك بين تلفزيون «بي بي سي عربية» و«التلفزة التونسية»، ونسخة تونسيّة متجدّدة للبرنامج قدّمت في نسخة سوادنيّة أثناء الاستفتاء على الانفصال في جانفي الماضي، وقدّمت في مصر في شهر جوان من العام نفسه يقوم على فكرة بسيطة، ولكنّها ناجعة، تتمثّل في مناظرة مباشرة بين منصّة تجمع ستّة من ممثّلي الأحزاب والقوى السياسيّة وبين قاعة من الحضور النوعيّ والمميّز من الجمهور سواء في الأستوديو أو عبر صفحة البرنامج على «الفايس بوك». ولاقت هذه التجربة الرائدة في التعاون بين التلفزة الوطنيّة والتلفزيون البريطاني استحسان المتابعين للفضاء الإعلاميّ، من حيث التنظيم وإدارة الحوار، والتوازن بين وجهات النظر، والعدل في إتاحة الفرصة، والسيطرة على الانفلاتات الكلاميّة التي تعوّدنا عليها في تونس، وتجنّب اللعثمة والتأتأة والتردّد لدى بعض مذيعينا والتي صرنا معها محرجين كلّ يوم أمام العالم. وقد أفلح في هذا، وبذكاء وحضور وتألّق، الصحفي مكّي هلال مذيع الأخبار والبرامج الحواريّة في محطّة «بي بي سي» الناطقة بالعربيّة حتّى قال أكثر من متابع: هذا درس على الهواء ! إنّ الانتقال الديمقراطيّ يحتاج إلى بناء ثقافة متكاملة تقطع مع «هستيريا التغيير» بأيّ ثمن وبأيّ شكل، والإعلام أحد المسالك المهمّة في هذه البناء باعتباره رافعة متقدّمة لصياغة الرأي العام، وتشكيل ثقافة للانتقال نحو الديمقراطيّة وفق خطّة وتدرّج محكمين جُرِّبا فصحّا في تجارب الانتقال لدى غيرنا. ولا أشكّ أنّ الانحياز إلى طرف بعينه، وتبنّى وجهة نظر مغلقة، والتركيز على فكرة مخصوصة دون نقيضها، وإقصاء معاني الاختلاف الخلاّق من المشهد التونسيّ هو من أكبر معوّقات الانتقال الديمقراطيّ إن لم تكن آفاته. وهذا الانتقال لا يكون بدون إعلام مهنيّ، وأوّل عناوين المهنيّة نقل الصورة والمشهد كما هما لا بتخليقهما وفق الأهواء والرغبات والأمانيّ والآمال. وما تستفرغ بعض الفضائيات جهدها فيه من نصرة لشقّ على آخر، وتسويق لبضاعة فكريّة دون أخرى لا يساعد على إنجاح مسار الانتقال نحو الديمقراطيّة لأنّ هذه الفضائيّات وهي توهمنا بالحرفيّة والتوازن والموضوعيّة تستعيد أدوارا قديمة كانت البروباغندا الإعلاميّة تحتفل بها باعتبار الإعلام لديها مدفعا رشّاشا أو حزبا أوحد أو قائدا معلّما أو مسجدا للخطبة الوحيدة. إنّ فكرة الانفتاح على تجارب مهنيّة متطوّرة عالميّا في الدول الديمقراطيّة كالتجربة الفرنسيّة أو الألمانيّة أو البريطانيّة، ومن خلال التعاون مع مثل هذه المقترحات هو لبنة على طريق الإصلاح التي ينتظرها إعلامنا الوطني وخاصة منه العموميّ، منذ وقت، وخطوة في معالجة أدوائه التي شخّصتها التقارير الدوليّة، والدراسات التي وضعها الخبراء والمهنيّون، وعملت على تدشينها «الهيئة الوطنيّة المستقلّة لإصلاح الإعلام والاتّصال» سواء عبر تقاريرها في الغرض، أو عبر الورشات التدريبيّة التي بدأت بتنظيمها.