قفصة أو» قبصة « كما سجلها التاريخ يوما ما.. ربوة الرماد والحجارة المتفحّمة وقواقع الحلزون والصوان المكشوط.. المدينة الحبلى بالبراكين الثورية ..بقدرها أن تكون ثائرة .. قفصة التي سبقت التاريخ.. وأرخّتها الكتب والمراجع اللاتينية بعراقة حضارتها القفصية المؤثرة بعمق في الحضارات الاخرى.. فبقيت قفصة على العهد.. منها تتوالد الاحلام لتصّدر الامل والوجع كما تصدّر ثرواتها الطبيعية.. وخيرة أبنائها.. استقبلتنا هاته المرة بأمطار مسترسلة غسلت الشوارع والاشجار من غبار الخريف الذي حلّ متأخرا كما الوعود التي سبق ان قيلت لكنها اختفت مع مرددّيها.. أمطار جاءت على عجل لتستقبل غريبا قادما على مهل.. تعمدّت ان تبلل المعلقات هاته المرة واتلفتها دون الحاجة الى اتهام جهة او فرد بعملية الاتلاف فكان تمرد الطقس منهكا للكثيرين ممن كانوا برمجوا خطبهم الانتخابية ما قبل التصويت.. قفصة مدينة كل الوقت بقدر عدد حفرها بالطرقات والمطبّات ومخفضات السرعة المخالفة لكل المقاييس الدولية تتساوى مع عدد الوعود التي تلقتها عاما بعد عام وكأنما كتب عليها ان تكون دائما مدينة للألم الدائم .. في شوارعها معالم الفرح المؤجل فيتعثر صوتك وانت تتجول في طرقاتها بأصوات مزامير السيارات والزغاريد فتصبح ملزما باستراق النظر لتتعرف الى العرس ان كان احتفالا بعروس قفصية او موكب قائمة حزبية.. فلا فرق بينهما الا في وصف المشهد بين سيارات الباشي او السيارات المكتراة التي حملت من الاعلام والمعلقات الشيء الكثير.. قبصا التي احتلها الرومان في القرن الثاني قبل الميلاد فتوافدت عليها الحضارات من كل الجهات.. ها هي اليوم تعجّ بالغرباء.. نشطت بها تجارة الانتخابات بوتيرة أشد من صناعاتها التقليدية.. انتخابات التأسيسي في كل الازقة والانهج والشوارع ..هنا وهناك حركية كبيرة جدا لم تشهدها المدينة من قبل في انتخابات سابقة حيث كانت الصفقات ملزمة لاشخاص دون غيرهم.. المطابع غصت بالمطويات.. سيارات الكراء كلها محجوزة الى ما بعد الانتخابات.. عدد هام من المتساكنين عارفون بخفايا الحملة واخرون ينتظرون انتخابا لرئيس دائم ولاستقرار أكثر دواما من أجل وضع مشاغل الجهة على طاولة التنفيذ والمحاسبة بعد ان ملّ الناخبون والنافرون من عمليات الاقتراع من وعود ما قبل التصويت . الكثير من شباب الجهة المثقف ومدينة قفصة كما عرفها التاريخ ولاّدة لذوي الكفاءات العالية من مهندسين ودكاترة وعلماء لكنها تصدرهم الى الخارج رأوا في قفصة.. المدينة المظلومة عبر التاريخ والتي لم ينصفها الزمن لتكون كما كانت يوما ما في العهد الروماني أهم مدن ولاية افريقيا «البروقنصلية».. أو كما دونّها التاريخ «قبصة الاسلامية».. قاومت الوجع طيلة عقود من الزمن كما قاومت «خير الدين برباروس» قبل 460 عاما، لكنها رغم صمودها في الحروب التي خاضتها من أجل التحرّر بقيت بلا منصف لتاريخها الحافل بالانتصارات على الورق . «قبصة» في العقود الاخيرة التي واكبتها فقدت الكثير من عيون الماء الطبيعية فجففوا منابعها عمدا لاغتيالها عطشا هاته العيون التي كانت مّثلت شريانا حيويا للاستقرار.. فأفقدت أبناءها بياض الأسنان وغطّتها باللّون الاصفر الباهت كما لون الجدران التي تغطي مدنها الصغيرة المحيطة بها لتصبح متجانسة مع لون الجبال التي تحيط بها من كل الجهات كما الحصن المنيع.. ها هي اليوم تعيش على وقع الثورة من جديد .. المدينة التي أنجبت الازهر الشرايطي قائد جيش التحرير التونسي إبان الثورة المسلّحة ضد المستعمر الفرنسي تنتفض وتستفيق لتنتظر غدا أجمل قد يحمل في رياحه الموسمية قائدا في مرتبة النضال الوطني التي كانت هي أنموذجه عبر مراحل التاريخ ومنها اندلعت شرارة المقاومة كما تندلع شرارة الحريّة.. ساحة الشهداء.. ساحة التحرير.. مكانان متجاوران لكنهما واكبا تاريخ المدينة عبر الزمن الحديث عرفا التمرّد كما عرفا الفرح والعصيان .. من هنا أكدّ حاملو الذاكرة «للشروق» أن من يحكم الساحة هو من يحكم المدينة الحالمة.. كمن يحكم القبيلة إلا من يخمد نيرانها.. غدا.. كيف تحولت «زروق» من مياه العلاج الطبيعي الساحر الى علاج الامراض المستعصية الى مسابح مهجورة حولّها البعض الى ركن لإسالة دماء خرفان الأضحية وكيف سدّ المسؤولون عيون مياه التاريخ للفسقية بالاسمنت ..وارتكبوا جريمة تاريخية بتجفيف «الترميل» الحمام الروماني بدعوى الترميم .ومنها الى الرديّف المدينة ولاّدة الثورة التونسية بالصدور العارية .