الحديث مع المفكّر والفيلسوف العربي والعالمي الدكتور ناصيف نصار عبارة عن رحلة بين الماضي والحاضر والمستقبل... رحلة «يطوف» بك بين مراحلها ومحطاتها بشكل متواصل... محاولا بناء «جسر فكري» متكامل...فالدكتور ناصيف نصّار يبدو لك في أفكاره بمثابة مجرى نهر هادئ يجمع باستمرار وبشكل متجانس ومنطقي بين معطيات التاريخ العربي ومميزاته وبين معطيات التغييرات الراهنة مستدعيا التاريخ دون أن يدخله و«يغوص» في السياسة دون أن «يبتلّ» بها...ويترفّع عن الواقع دون أن «يهجره»... محاولا «اقتحام» حقل الحريّة «متأبّطا» رؤية فلسفية نهضوية ومجادلا في تراثها ومساراتها لكن دون أن ينغمس مباشرة في أي من المعارك السياسية والفكرية العربية بل بقي فوق هذا المعترك أمينا لرسالته الفكرية في سبر أغوار مواطن الخلل والانهيار الحضاري العربي... وفي استيضاح... دعائم البناء والاصلاح...ولأن اللحظة العربية الراهنة هي لحظة بناء وإصلاح بالأساس كان لابد من الاستماع الى مفكّر في حجم الدكتور ناصيف نصّار الذي يملك في رصيده مؤلفات عديدة لها صيت عالمي... وفي ما يلي هذا الحوار.كيف تتابع دكتور ناصيف المسار الثوري الذي يكتسح بعض دول المنطقة هذه الايام... ثم، من الناحية الاجرائية تحديدا، هل تعتقد أنه من الممكن أن يقود هذا الحراك الى مشروع تغيير شامل للمجتمع بكامله، بأنظمته وبنيته ومؤسساته؟هو في ظاهر الأمر، ما يجري في العالم العربي يشبه الزلزال لكن هذه صورة ينبغي التدقيق فيها فالمشهد العربي هو في الحقيقة ليس واحدا... هناك اختلاف كبير بين البلدان العربية فهذه البلدان لا تعرف الاوضاع نفسها لأن تركيبتها وخلفياتها التاريخية والوضع الاستراتيجي لكل منها أمور متباينة... وهذا لا يعني أنه لا توجد سمات مشتركة بين هذه البلدان... هناك نظام واحد يتحكم في هذه البلدان... وكان يتحكّم ببعضها... هناك نظام يمكن وصفه بأنه نظام استبدادي... لكن المهمّ أن ما يجري في هذا العالم هو حركات احتجاجية قوية بصرف النظر عن تسميتها بالثورات... ينبغي أن نكون متشددين في اطلاق مصطلحات ثورية...وهي تبغي تغييرا عميقا وبقدر ما يتحقق التغيير العميق تستحق هذه الحركات أن تسمّى ثورات... وفي الحقيقة نحن اليوم في مسار ثوري لم يكتمل بعد... حتى في تونس لم تنته العملية الثورية...فعملية التغيير بدأت في الشتاء لكن هذا المسار لا يزال مستمرّا ولم يصل الى محطته النهائية بالنسبة الى تونس ومصر... أما في بلدان أخرى فالمسار الثوري لا يزال متعثّرا ويلاقي مقاومات شديدة ولا يمكننا أن نتنبأ بما يمكن ان يؤول اليه الأمور... نحن اليوم في مخاض تاريخي كبير لم يشهد العرب له مثيلا منذ عقود... نحن في حالة يقظة ينبغي ألا نراها على المدى القصير بل يجب أن نراها على المدى التاريخي الطويل.أنا من هذه الناحية أرى أن التغيير العميق لم تحصل منه سوى خطوات قصيرة لأن الإرث الاستبدادي والقمعي ونظام التسلط الذي عرفته البلدان العربية له تاريخ طويل في المؤسسات العربية... ولذلك لابد من مسار طويل... أنا أنظر الى الأمور من منظار تاريخي... ولا تنسى أنني خلدوني الجذور...هل نكون، في هذه الحالة، دقيقين إذا فسّرنا كلامك هذا على أن فيه خوفا من خطر إجهاض مسار التغيير الجاري اليوم بالمنطقة؟نعم، هذا التغيير مهدد فعلا بالاجهاض وبضعف النفس وبنوع من التراخي الناجم عن الظن بأن هذه الثورات قد بلغت أهدافها مع رحيل الحاكم المستبد... نعم ينبغي ألا تخدع القوى التغييرية بما حصل... فما حصل ليس كافيا... هناك قوى تستطيع أن تلتفّ على حركة التغيير... وتريد أن تجهضها... هناك أيضا قوى خارجية تريد للشعوب العربية أن تبقى في حالة من التخلّف... هناك أخطاء يمكن أن ترتكب في المسار الثوري في مجالات عدّة... هناك انشقاقات يمكن أن تحصل في الثورات... خذ مثلا، في مصر... هناك اليوم نقاش حول قانون الانتخاب... وهناك انقسام كبير حول هذه المسألة... كذلك توجد أخطار كثيرة تتربّص بعملية التغيير ينبغي التنبّه إليها.هل نفهم من كلامك أن الطريق نحو «دولة الثورة» لا تزال بعيدة وأننا أقرب الى استبدال نظام بنظام منه الى التأسيس لواقع ديمقراطي جديد وفق السياقات الشعبية العربية؟أولا، أرفض التنبّؤ، نحن نعيش مخاضا مفتوحا والمهم أن الأبواب انفتحت.. قبل هذه المرحلة كان المشهد مسدودا واليأس مسيطرا على الشعوب العربية الى أن جاءت الثورات وكسّرت هذه الحالة وفتحت هذا الأفق.. نحن نعيش مرحلة مليئة بالمخاطر.. ولكنها أيضا مليئة بالأمل في التقدم.. لذلك ينبغي أن نتمسّك بقيمة الحرية ونصلح الأخطاء التي تقع فيها علما أن قيمة الحرية لا يمكننا أن ندافع عنها هي فقط.. هناك أيضا قيمة العدل وقيمة النظام الاجتماعي.. هناك قيم كثيرة فلا نرى الحرية كأنها إله جديد نتعبّد له دون غيره.ثمة صراع معلن ظهر الى العلن بشكل بيّن بين الاسلاميين والعلمانيين بعد الثورات العربية الأخيرة.. ما هي برأيك، دكتور، اتجاهات هذا الصراع وسياقاته.. وهل من وسيلة برأيك لعزل الايديولوجيات الجاهزة عن معركة التغيير الجارية اليوم؟أعتقد أن الأمور في هذا الخصوص ستنجلي كلما فسح النظام الجديد المجال للحرية والنقاش والحوار.. ففي هذه الحالة يصبح من الضروري أن يجد كل تيار محلّه في المشهد السياسي.في رأيي كناظر الى حركة التاريخ أن المسار الطويل للبلدان العربية سيتجه حتما نحو الأفق الديمقراطي ولكن بتعرّجات وانكفاءات وربما صراعات.. الصراع الديمقراطي هو الذي سيحسم الأمور في هذا الاتجاه.. وكل القيم التراثية لن تجد لها أثرا في المشهد العربي الجديد.. بل سيعاد التفكير فيها في إطار المجتمع الجديد وعناوينه الكبرى ضمن الحضارة الاسلامية.ما نراه اليوم أن الايديولوجيات إسلامية الطابع بتلاوينها المتعددة حلّت محل الفكر القومي العربي.. فهل تعتقد بأن مثل هذه الفكرة بتعبيراتها المختلفة والمناقضة أحيانا يمكن أن تشكّل بديلا عربيا جامعا اليوم؟الدول العربية تحمل التراث الاسلامي منذ قرون.. لم يكن ذلك عاملا مباشرا في ما بينها.. الفكرة الإسلامية أقدم من الفكرة القومية.. والفكرة الاسلامية موجودة ولكنها ليست فكرة جامعة للشعوب العربية.. مسألة التوحيد السياسي لهذه الشعوب أعتقد أنها أكبر من أن تردّ الى عامل ثقافي أو إيديولوجي.. لكن المهم في هذه الحالة أن تأخذ الواقع القائم وأن تتعامل معه على الأسس التي تدعونا الحضارة الاسلامية الى اتخاذها.. خذ مثلا قيمة الحرية.. كيف يتعامل معها الشعب العربي المسلم.. إذا لم نتفق على تصوّر واحد لهذه القيمة فإنها ستبقى معطّلة.. فهكذا ينبغي ألاّ نضخّم مسألة العامل الاسلامي وأن نغرق في الأوهام التي يأخذنا إليها البعض..بوصفك فيلسوف الحداثة الرئيسي في العالم العربي، كما يطلق عليك كثيرون، كيف استطعت في أفكارك أن تنجو من السقوط في «نهر الأصالة» دون أن تحرم نفسك من الاستحمام فيه ومن فتح مسالكه على مقاربة فلسفية جديدة تنأى عن «الحرب الفكرية» التي أدّت إليها هذه «الثنائية» (الأصالة والحداثة)؟في الحقيقة كنت دائما في أفكاري لا أحب كثيرا هذه الثنائية وأحاول أن أبتعد عنها على الرغم من وجاهتها من الناحية التفسيرية.. لأنني أفضل دائما اعتماد مفاهيم تناسب المشكلات.. فهذا في اعتقادي أصحّ من مقاربتها.. في هذه الناحية أنا أدعو الى تجاوز هذه الثنائية التي تقيّدنا في أطر فكرية عقيمة.. الأفضل دائما أن نحدّد المشكلات وأن نتعمّق في معالجتها.. مثلا مسألة الحرية.. هذه مسألة إنسانية قائمة بنفسها.. وتصوّرها يستدعي منا ألا نؤطّرها سلفا بمرجعية فكرية.. هي بالتالي مشكلة كونية وبصفتها هذه تهمّنا رؤية الغرب وتصوّره في معالجة هذه القضية لكن دون أن نكون أسرى لهذا التصوّر.. علينا أن نعتمد هنا على تصورنا للحرية كمرجع ومقياس لتصرّفاتنا.. ولذلك أنا طرحت في هذا الاطار أفقا جديدا لتجاوز هذا التناقض المصطنع بين الأصالة والحداثة أسميته «النهضة العربية الثانية».. فحين تصدح صورة المستقبل محددة تكون مسألة استعمال التراث وكيفية التعامل مع الفكر العربي الذي يوصف بأنه فكر حداثة مسألة قابلة للتوظيف في الفكر..