هي نهاية مؤلمة بدون أي شكّ، نهاية بكل تداخلاتها، هل قاوم؟ هل كان يستعد للهرب؟ هذه أسئلة تظلّ خارج السياق في تقديرنا، لأن كل ما جرى وكل ما كان وجب تفاديه وعدم استمرائه والمضيّ به بحيث يتراكم عدد الضحايا من الشعب الليبي الذي قدم من هؤلاء الضحايا أعدادا لا تحصى من خيرة أبنائه والذين لم يعرف أهلوهم أي أثر لهم إذ يجري دفنهم في مقابر جماعية موزعة على امتداد الصحراء الليبية المترامية، هذا عدا إبادة سجناء الرأي بالمئات بدون تردد ولا خشية ولا وجع قلب أمثال شهداء سجن أبو سليم الذين أبيدوا عن بكرة أبيهم وقد فاق عددهم الألف وبضع مئات، كأن هؤلاء ليسوا بشرا وليس لهم أسر ولا أحلام، عدا المئات من طلبة الجامعة الذين كانت المشانق تنصب لهم في ما كانت تسمى بالساحة الخضراء بتهمة أنهم «كلاب ضالّة»! كتبنا هنا أن على القذافي استيعاب ما يجري في ليبيا، وأن ثورة الشعب لم تقم إلا لتنتصر، وأنه مهما أطال من عمر مقاومته لهذه الثورة الليبية العارمة فإنه لا بد أن يسقط في الأخير، كل الدكتاتوريات سقطت ومضت، هل هناك أكثر من تشاوسيسكو؟ عدا التجارب الحديثة في ثورتي تونس الرائدة وثورة مصر والبقية تأتي. إن إطالة الحرب وإطلاق التهديدات المروّعة التي تبثّها فضائية «الرأي» لم تفده بشيء والتي اعترف صاحبها بأنه يبثها بمقابل زائدا عنجهية ابنه «سيف الحقد» وليس الاسلام، وتلك العبارة البائخة «طز في حلف الناتو» وقبلها في أمريكا كلها أنفاس أخيرة لمحتضرين. من المؤكد جدا أن تهديم مصراتة الباسلة على ساكنيها بعد ضربها بالأسلحة الثقيلة وإبادة من يقع في الأسر لدى كتائبه كلها تصرّفات حمقاء كان يمكن تلافيها وتلافي مأساة أسرته إذ قتل ومعه عدد من أبنائه ومن فرّ منهم تطالب به سلطة الثورة ممثلة بالمجلس الانتقالي. وهكذا ضيّع كل شيء، وانتهى بتلك النهاية التي سأظلّ أصفها بالمؤلمة. كان بإمكانه أن ينسحب بهدوء ويمضي شيخوخة هانئة، يرى أحفاده يكبرون، ويترك السلطة اللعينة التي مسك بها بكل ما يملك، حتى أولاده حوّلهم الى عسكر وأطلق أسماءهم على بعض الكتائب وسلّمهم للموت لأن غرس الحقد لا يأتي إلا بالحقد.. هذه هي ثمار هذه الشجرة. كان مجيء القذافي لحكم ليبيا سؤالا، فهو فتى في العشرينات من عمره وفي رتبة عسكرية بسيطة، وكانت هناك عدة قواعد عسكرية في ليبيا زمن الملك السنوسي، كما أن عدد أفراد الجيش الليبي كان بسيطا، فكيف يطيح هذا الضابط الصغير بالحكم في بلده ويقيم بدلا عنه نظاما جمهوريا تحول وفق الصراعات القذافية اللاحقة الى جماهيرية وبمزاجية الفرد الذي كاد أن يرى نفسه إلها كما وصفته صحفية إيطالية قبل سنوات بعد لقائها الصحفي به! وكان الربط يجري بين رحلته الى بريطانيا في بعثة تدريبية عسكرية وبين سهولة تسلمه حكم ليبيا وهو لا يعرف شيئا عن الحكم، ولم يعرف ومن معه كيف يتدبّرون الأمر! نتذكر هنا ما قاله له الملك عبد اللّه يوم كان وليا لعهد السعودية حول من جاء به الى الحكم بعد ادعاءاته وتبجّحاته في احدى القمم العربية. كانت سنوات حكم القذافي التي فاقت الأربعين سنة أشبه بالسنوات الضائعة في عمر الشعب الليبي الذي يستحق الحياة الكريمة والتمتع بثروته الهائلة التي كانت تبدّد شذرا مذرا وفق أحلام عصافير وظنّ نفسه كل شيء، ملك الملوك، وعميد الرؤساء العرب، وإمام المسلمين! وصار يرتدي ثيابا هي أقرب الى ثياب المهرّجين لأنها لا تعود الى أيّ شعب حتى يلفت إليه الأنظار. من رآه في لحظاته الأخيرة وهو يسحب من أنبوب الماء سيكتشف أن صفة الجرذان التي أطلقها على ثوار ليبيا كان هو الأقرب إليها إذ سحب من مخبإ لا يتوقعه أحد! راهن في أيامه الأخيرة على الطوارق وخاب رهانه فإذا كان قد دفع لبعض زعمائهم الموزعين على امتداد النيجر والجزائر وليبيا نفسها فإن هذا لا يعني أنهم سيقاتلون الشعب الليبي من أجله! كما ظهر ابنه سيف «الحقد» ليدعو أتباعه لاختطاف أعضاء المجلس التأسيسي ومبادلتهم بأسرى الكتائب! كلها تخريفات لم توصل الى حل، وكان الحل الوحيد أن ينسحب بكرامة مع أبنائه ويترك الشعب الليبي ليقرّر مصيره بنفسه دون تدخل منه، فكتابه الأخضر وثورته العالمية الثالثة حوّلت الشعب الليبي الى هائم على وجهه يبحث عن العلاج والدواء في تونس والأردن ومصر أو بعض بلدان أوروبا. صفحة سوداء طويت وعلى الشعب الليبي أن يبدأ بصفاء وتسامح ومحبة! اللّهم لا شماتة.