في تعريف بسيط لكلمة «مقهى» في تونس... يمكن القول بأنه الفضاء الوحيد الذي بامكانك أن تشاهد فيه أكثر من مباراة لكرة القدم في اليوم الواحد في إشارة واضحة الى التوظيف السياسي للعبة الأكثر شعبية في تونس. النظام السابق حوّل اهتمام شرائح عديدة من المجتمع الى كرة القدم خشية أن تتحول المقاهي الى منتديات سياسية قد يتحدث فيها التونسيون في الممنوع... وبين الأمس واليوم تغير المشهد وعوضا عن البساط الأخضر تحولت شاشات التلفزيون الى فضاء ينقل مشاهد للحراك السياسي في تونس وهو ما انعكس على طبيعة النقاشات بين رواد المقاهي... ارتبط المقهى في تونس تاريخيا بالأدب والثقافة والفن ومن النادر أن تعثر على تونسي وحيد لا يعرف مثلا مقهى «تحت السور». هذا المقهى الذي كان يرتاده كبار أدباء تونس وشعراؤها في منتصف القرن الماضي ولازالت ذاكرة التونسيين تحفظ عن ظهر قلب أسماء مقاه أخرى اشتهرت باقامتها للحفلات الفنية في أحياء عديدة من العاصمة، لكن المشهد تغير بشكل «فجئي وعنيف» في نهاية تسعينات القرن الماضي بعد أن اكتسح التلفاز المقاهي وصار عنصرا قارّا في ديكور هذه الفضاءات. يقول السيد وحيد السماوي: «أذكر أنّ القليل من المقاهي كان يتوفر على جهاز راديو لا يبث إلاّ برامج الاذاعة التونسية خاصة المباريات الرياضية ليوم الأحد لذلك لم نكن ننتبه كثيرا للبرامج الأخرى، بل نفضل عليها النقاش فيها بيننا والحديث في أمور تهمنا والاستمتاع بآراء وتحاليل المثقفين الذين كانوا يرتادون المقاهي بكثرة، لكن الأمور تغيرت في أيام حكم بن علي وأصبحت كرة القدم والمباريات التي تنقلها القنوات التلفزية الشغل الشاغل للتونسيين». فهل أن النظام السابق سعى الى تسييس كرة القدم؟ كل العارفين بالشأن السياسي يعلمون أن الرياضة بشكل عام وكرة القدم بشكل خاص تمّ استعمالها لالهاء الناس عن مشاغلهم الحقيقية وهو رأي عبر عنه السيد منير خضراوي الذي قال: «اعتقد أن النظام السابق استغلّ شغف التونسيين عامة وشريحة الشباب خاصة بكرة القدم لتشجيع الظاهرة داخل المقاهي بل وحتى تكليف بعض العناصر بتنشيط الحوارات الرياضية بين الحرفاء مع مطالبة أصحاب المقاهي بالتركيز على القنوات الرياضية ومنع القنوات الاخبارية والثقافية». كرة القدم قبل الخبز أحيانا في المقابل يرى العديد من الشباب الذين استجوبتهم «الشروق» أنّ حبهم لكرة القدم ومتابعة المباريات داخل المقاهي هو سلوك عادي لا دخل للسياسة فيه، فالكلّ يبحث عن الفرجة التي من شروطها توفر الفضاء العام... مثل المقاهي. يقول الشاب رمزي يحياوي: «لا أعتقد أن مشاهدة المباريات داخل المقاهي وما يليها من نقاشات مسألة سياسية، أنا شخصيا مولع بهذه اللعبة وأريد متابعة المباريات مع أصدقائي ومناقشتهم في المقهى حول طرق اللعب واختيارات المدرب ومستوى التحكيم وحتى الآن أي بعد الثورة لازلنا نحافظ على نفس العادة والسلوك». لكن، هذا الرأي لا يمكن له بأي حال من الأحوال اخفاء حقيقة أخرى مفادها أن جمهور المقاهي غيّر من اهتماماته بعد الثورة، بل وأصبح له نجوم آخرون وهو ما تعكسه الحوارات والنقاشات التي عادت الى المقاهي وهي ذات طابع اجتماعي وسياسي بالأساس حتى أنّ القنوات الاخبارية الوطنية افتكّت النجومية من القنوات الرياضية وهو ما يؤكده السيد علي كريمي: «العديد من حرفائنا الذين كانوا يتحدثون عن ميسي ورونالدينو تحوّلوا الى مختصين في التحليل السياسي فهم يتابعون كل صغيرة وكبيرة عن أخبار راشد الغنوشي أو المنصف المرزوقي، بل إنّ تصوراتهم وقراءاتهم تفوق في بعض الأحيان قراءات أكبر المحلّلين السياسيين الذين نراهم على شاشات التلفزيون». هذا هو المواطن التونسي له قدرة عجيبة على التأقلم مع كافة الأوضاع وهو رأي هذا المستوجب: «التونسي كوارجي متى شاء ورجل سياسة متى شاء وإمام مسجد متى شاء ومحام متى شاء وحتى رئيس دولة متى شاء وهو أمر ايجابي يدل على ثقافته العالية وعلى اطّلاعه الواسع على كافة شؤون الحياة، لكن غياب الفضاءات الثقافية وندرة اللقاءات السياسية تجعله يهرب الى المقهى ليعبر عن رأيه بعيدا عن التملق».