تعيش الساحة السياسيّة منذ 23 أكتوبر الفارط على وقع تقاليد جديدة تقترب شيئا فشيئا لتُلامس ما هو كائن لدى شعوب وأمم أخرى سبقتنا إلى الممارسة الديمقراطيّة. المشاورات الجارية في سبيل تشكيل الحكومة الجديدة والنقاشات الجارية صلب لجان المجلس الوطني التأسيسي والجدل الدائر عبر مختلف الوسائط الإعلاميّة وفي مختلف منابر الحوار ، كلّها تعكسُ ما بلغهُ مسار الإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي في بلادنا من تغيّر وتبدّل. إلى وقت قريب كان الحديث عن رئاسة الجمهوريّة وعن الحكومة من التابوهات والمحرّمات الخوض فيها والتجادل حولها ، كما كانت التشريعات والبرامج والخطط الحكوميّة تُسقطُ على الواقع دون إثرائها في الفضاء العام وبمقاربات المختصّين والخبراء ، وربّما ذلك من الأسباب الّتي أدّت إلى انهيار بنيان النظام السابق وتلاشي أسسه بشكل كانت فيه الكثير من الغرابة ومن المفاجأة كذلك. إنّ انفتاح المشاغل والملفات الوطنيّة الكبرى وتناولها على أوسع نطاق بما فيها تلك الّتي تهمّ مواقع القرار وأطراف السلطة سيكون من الممهّدات لكي تسير الحياة السياسيّة بأكثر شفافيّة ووضوح وأكثر ثبات وصلابة وفعاليّة ونجاعة. بقدر ما ستغيب المحرّمات وبقدر ما ستغيب عقليّة احتكار القرارات الوطنيّة من قبل الطرف أو الأطراف الحاكمة في دواليب السلطة بقدر ما ستؤول أوضاع البلاد إلى الأفضل والأحسن وبقدر ما ستتحقّق الكثير من تطلعات المواطنين على أرض الواقع. إنّ تداول أيّ معطى سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي على نطاق واسع سيُمكّن من تقييمه وإبراز نقاط الوهن والنقص والضعف وسطه وسيفتح الباب من ثمّ إلى تعديل الرؤى والتصوّرات والبرامج وحتّى المهمّات والأسماء المرشحّة لهذا المنصب أو ذاك ، وذلك هو الطريق الّذي تحياه اليوم كبريات الديمقراطيّات في العالم حيث لا يغيب عن أنظار الرأي العام أيّ تفصيل ولو كان بسيطا له صلة بالسلطة أو المعارضة أو مجريات الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة. ومن المؤكّد أنّ بلوغ تلك الدرجة العالية من التيقظ وإشاعة الأخبار الصحيحة والمواقف المبدئيّة الواضحة ومشاريع القرارات والنصوص القانونيّة والتوجّهات الكبرى الّتي تهمّ أجهزة الدولة والتسميات المزمع تنفيذها لقيادة المرحلة المقبلة ، من المؤكّد أن يكون بعيدا عن كلّ أنواع الحجب أو التعمية أو الرقابة وبجهد تُساهم فيه كلّ الأطراف من هي في السلطة ومن هي في المعارضة كذلك. إنّ انفتاح الحياة السياسيّة على جدل الرأي العام ومقارباته وأصدائه المختلفة سيكون الضمانة الوحيدة لكي تقطع البلاد مع سلوكات الماضي الذي كان فيه الكثير من الانفراد والغموض والتداخل ممّا أدّى إلى انتاج منظومة سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة فيها الكثير من السلبيات والهنات ودفعت بالبلاد إلى تلك المآزق والأزمات التي انتهت بفورة غضب شعبي عارمة نادت أوّلا وأخيرا بالقطع مع الماضي والتأسيس لشيء جديد بسلطة جديدة ومعارضة جديدة أيضا. وعلى طرفي السلطة والمعارضة أن تعي جيّدا اليوم أنّ أبواب العودة إلى الخلف باتت مسدودة ومغلقة وأنّ الشعب أضحى أكثر وعيّا وأكثر حذرا وأشدّ رقابة ومتابعة لشؤون تسيير دولته ولن يتسامح مع أيّة قوّة أو حزب أو تيار أو تحالف يروم إعادة إنتاج نفس المنظومات السابقة الفاشلة ، فأحزاب السلطة وأحزاب المعارضة مدعوة إلى أن تقدّم على درب تلك التقاليد الجديدة في الممارسة الديمقراطيّة والتي تقتضي قدرا كبيرا من الصراحة والوضوح والنزاهة والصدق والشفافيّة.