من أسوإ ما يُمكن أن تُدار به الملفات السياسيّة ، أو لنقل الملفات الخلافيّة التي تتعدّد حولها الآراء والمقاربات ، أن تُدار بسياسة المكيالين أو سياسة الهوى والاعتبارات الضيّقة والمصالح الآنيّة ، هذه المصالح وهذه الاعتبارات التي نعلم جميعا أنّها دائمة التغيّر والتبدّل بحسب الظروف والأوضاع. إنّ من أوكد الأولويات التي تحتاجها بلادنا اليوم، وربّما قبل فوات الأوان، هي استعادة الثقة وروح الانفتاح والتواصل البنّاء بين مختلف الأطراف بغاية المساهمة والوقوف الجماعي من أجل تحقيق أهداف الثورة وإنجاحها التي نحيي هذه الأيام ذكراها الأولى . تتداخل وسط أجندات عمل السياسيين والحزبيين في تونس اليوم العديد من المطامح والمطامع وتتقاطع فيها لزوما النظرة الصائبة الحكيمة بقراءة النوايا والتشكيك المتبادل بين هذا الطرف أو ذاك. لم يسلم أداء السياسيين ، وعلى الرغم من مرور سنة على الثورة وعلى الرغم كذلك من المحطات السياسيّة والانتخابيّة الهامّة التي عرفتها البلاد ونوّه بها العالم، لم يسلم من سياسات المغالطة وحجب الحقائق واعتماد سلوكات رفض الآخر والتشكيك ومرات اللجوء إلى مأزق ليّ الذراع لهذا الخصم أو ذاك. ما تزال غيمة الشك وانعدام الثقة تطفو على سطح العلاقات السياسيّة والحزبيّة، وما يزال المواطن في غضون كلّ ذلك ينتظر ساعة خلاص السياسيين من برجهم – بهرجهم- العالي ومُلامستهم جميعا وفي آن واحد الواقع المعيش الّذي يزداد يوما بعد يوم صعوبة وتحديات. إنّ مسار الانتقال الديمقراطي الّذي تعرفهُ بلادنا يحتاجُ إلى تكريس مبادئ الديمقراطيّة والتعدديّة على أرض الواقع بعيدا عن كلّ الحسابات السياسيّة أو الحزبيّة الفئويّة أو الضيّقة وبروح تشاركيّة تغيب فيها الأنانيّة وتتجسّد فيها معاني الوفاء لأرواح الشهداء والّذين ضحوا من أجل تطليق عهد الظلم وانعدام العدالة والمساواة وغياب الحريات. إنّ تحقيق أهداف الثورة ممكن وجائز ، ولكنّه ليس أمرا هيّنا في وضع تتباعد فيه الرؤى والتصوّرات شيئا فشيئا بين مختلف السياسيين سواء من كان منهم في السلطة أو من كان في المعارضة. ما من شكّ في أنّ أهواء السلطة والحكم الّتي انفتحت عليها أعين السياسيين التونسيين بعد رحيل النظام السابق كانت ولا تزال أهواء محمومة يعتقدُ البعض أنّها أهواء تبيح الدسائس والمؤامرات وقطع حبل الصلة مع المخالف وإن أدّى ذلك إلى مزيد من الفوضى والمزيد من إضاعة الوقت والفرص لكي تعيش البلاد على وقع إصلاحات ومشاريع وبرامج تنتقل بحياة الناس نحو ما هو أفضل وما هو أحسن. إنّ انجرار ثلّة من نخبنا وطبقتنا السياسيّة إلى الرأي والرأي المناقض بسرعة عجيبة وبين الفينة والأخرى يؤدّي في النهاية إلى غياب الوضوح في المواقف والتصريحات والقبول بتشكّل وضعيّة مشوّشة لدى الرأي العام الّذي يستعصي عليه في الكثير من الأحيان فكّ رموز السياسة وطلاسمها وكيفية دورانها على الرغم من حصول الثورة وتنظيم الانتخابات. ومن المهم التأكيد على أنّ الوضوح لدى السياسيين وعودة الثقة بينهم جميعا تبقى من بين أهمّ ضرورات هذه المرحلة الموصوفة بكونها مرحلة بداية البناء والتأسيس.