إن الحكومة الجديدة المنبثقة عن المجلس الوطني التأسيسي الذي أفرزته الانتخابات التي جرت مؤخرا ستجد نفسها لا محالة في مواجهة عدة صعوبات وتحديات واستحقاقات لعل من أهمها : أولا : تحقيق الوفاق الوطني : لا ننسى أن هذه الحكومة جاءت نتيجة مباحثات وترتيبات جرت طيلة شهر كامل بعد الانتخابات بين أهم الأحزاب التي تحصلت على أغلبية المقاعد داخل المجلس التأسيسي وهي لعمري أول تجربة ديمقراطية من نوعها في تونس منذ الاستقلال .
وتبعا لذلك وبالذات، فإنه ينتظر من هذه الحكومة التي يراقبها الشعب التونسي والعالم العربي و الإسلامي والعالم الثالث بل والعالم بأسره أن تضرب مثلا في التسامح والتفتح على كل التيارات والقوى السياسية سواء تلك التي فازت في الانتخابات الأخيرة أو حتى من لم تفز لأن العبرة في هذه المرحلة إنما هي بتوحيد صفوف الشعب والقوى الوطنية والتنظيمات السياسية في البلاد لمواجهة التحديات صفا واحدا وبصوت واحد وبيد رجل واحد ( وامرأة واحدة) . إن الوطن ينادينا وبلادنا لها حق علينا في الإسراع بتضميد جراحها وإرجاع مسارها إلى المنهج القويم والخط الصحيح بدون إقصاء أو تصفية حسابات أو رواسب حقد أو نزعة للإنتقام أو المحاسبة لبعض الأطراف أو القوى التي كانت تعتبر معادية أو مناهضة لمن تسلموا مقاليد السلطة حاليا، سواء في الجهاز الأمني أو القضائي أو الإداري أو السياسي أو الحزبي .
فلا مجال اليوم للنظر عبر المرآة العاكسة بل يقتضي الحال وظروف الواقع أن ننظر جميعا إلى الأمام لفتح المجال الواسع أمام كل أبناء الوطن نحو آفاق أرحب تتسع للجميع وتعطي الفرصة لكل المواطنين والقوى السياسية والكفاءات الوطنية للمساهمة في مشروع البناء والإصلاح الشامل والعميق والجذري بما يقطع كليا مع ممارسات الماضي وطرق و أساليب عمل النظام البائد ومن سبقه لتكون تونس فعلا دولة عصرية ديمقراطية تكرس الحريات الفردية والعامة وتصغي للجميع وتمد ذارعيها لتحتضن كل أبنائها المخلصين والذين يريدون لها الخير والعزة والمناعة .
ثانيا : إرسال إشارات ايجابية للعالم الخارجي : إذا كانت حركة النهضة هي المهيمنة على الحكومة وبالتالي على السياسة المنتظرة للبلاد في المرحلة القادمة باعتبارها صاحبة عدد كبير من المقاعد في المجلس وأهم الحقائب في الوزارة فإنها مطالبة وهذه مسؤولية تاريخية ووطنية لا نظنها غائبة عن أعينها بأن ترسل إشارات إيجابية لكافة الدول الشقيقة منها والصديقة ، القريبة منها والبعيدة بأنها فعلا في مستوى الحدث والمسؤولية فهي أول تجربة من نوعها في وطننا العربي.
وبصفتها ذات توجه إسلامي فعليها أن تطمئن العالم الخارجي وخاصة الغربي بأنها معتدلة في سياستها وتوجهاتها واختياراتها وممارساتها على عكس ما يتهم به البعض الإسلاميين بالإرهاب والتطرف والعنف ومعاداة الحرية والديمقراطية وكره كل ما هو غربي وله صلة بالحداثة.
وعليها التعامل بحذر شديد مع مسألة المرأة و مكتسباتها وكل المواضيع الحساسة التي يترقبها الملاحظون والخصوم للحكم عليها منذ البداية.فعليها رفع التحدي وإسقاط الأحكام المسبقة التي يحملها عنها الغرب وبعض الأطراف أو الأوساط التي جعلت من هذه المواضيع وسائل دعاية سهلة لمعارضة التيارات الإسلامية وتسويق أفكارها وبرامجها بسهولة على حساب الإسلاميين وجعلهم فزاعة في نظر الغرب وحتى بالنسبة لجانب من الرأي العام المحلي. إن قدر هذه الحكومة أن تنجح لتكون قدوة لغيرها من الحكومات المنتظرة في المنطقة بعد قيام هذه الثورات الشعبية المباركة .فالخطأ ممنوع والإنتكاسة لا قدر الله عواقبها وخيمة وطنيا وإقليميا وعالميا.
ثالثا : إقامة يرنامج إقتصادي يعيد الثقة للجميع : رغم قصر المدة وصعوبة الظروف وقلة الإمكانيات فإن على هذه كالحكومة أن تعد برنامجا عاجلا لإنقاذ الإقتصاد الوطني وإرجاع الثقة للمستثمرين التونسيين والأجانب وبعث الأمل في نفوس العاطلين والفقراء عبر إنجاز المشاريع الواعدة التي تطمئن الشعب على مستقبله وخاصة منه الشباب الذي يكاد يسيطر عليه اليأس وفقدان الثقة في المستقبل .
أما على المدى المتوسط والبعيد ورغم قصر مدة هذه الحكومة فعليها النظر في برامج تعيد هيكلة الإقتصاد وإعادة النظر في بعض الاختيارات مثل السياحة والفلاحة ووضع التصورات الكبرى والملامح العامة، إن لم تكن المخططات والبرامج ، للنهوض بالبنى التحتية الهشة من طرقات سيارة ومبان حكومية ومستشفيات وجامعات وأقطاب أو مناطق صناعية في كل المناطق وخاصة في الجهات الداخلية المحرومة والمهشمة .
رابعا : إطلاق حرية الإعلام والثقافة والديمقراطية الحقيقية :
إن حركة النهضة التي عانت ، ربما أكثر من غيرها من المعارضين لنظام الحكم السابق،على مدى العقود الثلاث الماضية من الإقصاء والاضطهاد والمنع والسجن والتعذيب مطالبة اليوم أكثر من غيرها بإيلاء قيم الحرية والتسامح أهمية كبرى .
فعليها إطلاق حرية الإعلام المسؤول والثقافة الوطنية الهادفة ورفع الحواجز أمام الديمقراطية و تسهيل مساهمة كل المواطنين والأحزاب والجمعيات في الحياة الوطنية وتمكينها من مخاطبة الشعب عبر وسائل الإعلام العمومية بدون شروط أو قيود أو تحديد للمدة أو المواضيع المطروقة.
وعلى هذه الحكومة أن لا تنسى أن الشعب الذي اختارها بالأساس لصياغة دستور يلبي مطالب الثورة ويتطلع لتحقيق طموحات الشعب بكل فئاته وتوجهاته لن يبقى صامتا أو متفرجا إذا لم يجد صدى تطلعاته في عمل الحكومة والمجلس التأسيسي الذي انتخبه فالكل واع ومتحمس ومجند للدفاع عن هذه الحقوق وصونها من كل انتكاسة لا قدر الله وهو مستعد لحماية ثورته والدفاع عنها والنضال لتحقيق أهدافها و تكريس مبادئها التي سقط العديد من شهداء تونس لأجلها بكل الوسائل في المدى القصير.. وهو الحكم الأول والآخر لمحاسبة كل من يخذله في الاستحقاقات الانتخابية القادمة ، ولن يجدد العهد لمن لم يستجب لمطالبه المشروعة أو يلبي استحقاقات المرحلة الراهنة