رسميا "ناجي جلّول " مرشّح حزب الإئتلاف الوطني للإنتخابات الرئاسية    أريانة: الكشف عن وفاق إجرامي وحجز كمية من الهيروين وسلاح ناري أثري    حقيقة الترفيع في تعريفات الكهرباء و الغاز    كأس تونس لكرة اليد... «كلاسيكو» من نار بين «ليتوال» والترجي    مستقبل سليمان اتحاد بنقردان (0 1) خبرة الضيوف كانت حاسمة    النجم الساحلي الاتحاد المنستيري (0 0) ..المنستيري يفرض التعادل على النجم    بعد توقف دام 19 عاما: مهرجان الحصان البربري العريق بتالة يعود من جديد    الإدارة الجهوية للتجارة بولاية تونس ترفع 3097 مخالفة خلال 4 أشهر    تفاصيل الاكتتاب في القسط الثاني من القرض الرّقاعي الوطني لسنة 2024    سهرة تنتهي بجريمة قتل شنيعة في المنزه التاسع..    مختصّة في أمراض الشيخوخة تنصح باستشارة أطباء الاختصاص بشأن أدوية علاجات كبار السن    للمرة ال36 : ريال مدريد بطلا للدوري الإسباني    المهدية: الاحتفاظ بشخص محل 15 منشور تفتيش وينشط ضمن شبكة دولية لترويج المخدرات    أمين عام منظمة التعاون الإسلامي يدعو لوقف حرب الإبادة في غزة وحشد الدعم للاعتراف بدولة فلسطين    ظهرت بالحجاب ....شيرين عبد الوهاب تثير الجدل في الكويت    البرازيل: ارتفاع حصيلة ضحايا الفيضانات إلى 58 قتيلا و67 مفقودا    هذه مواعيدها...حملة استثناىية لتلقيح الكلاب و القطط في أريانة    زلزال بقوة 5 درجات يضرب جنوب شرقي البيرو    جندوبة: إنطلاق عملية التنظيف الآلي واليدوي لشواطىء طبرقة    طقس اليوم الأحد...أجواء ربيعية    جامعة الثانوي تدعو الى وقفة احتجاجية    تونس تشارك في المعرض الدولي 55 بالجزائر (FIA)    نبيل عمّار يُلقي كلمة رئيس الجمهورية في مؤتمر القمة لمنظمة التعاون الإسلامي    نتائج الدورة 28 لجوائز الكومار الادبي    الاعتداء على عضو مجلس محلي    لتحقيق الاكتفاء الذاتي: متابعة تجربة نموذجية لإكثار صنف معيّن من الحبوب    الرابطة المحترفة الثانية : نتائج مباريات الدفعة الأولى للجولة الحادية والعشرين..    شيرين تنهار بالبكاء في حفل ضخم    هند صبري مع ابنتها على ''تيك توك''    تونس العاصمة : الإحتفاظ بعنصر إجرامي وحجز آلات إلكترونية محل سرقة    غدًا الأحد: الدخول مجاني للمتاحف والمعالم الأثرية    انتخابات الجامعة:إسقاط قائمتي التلمساني و بن تقية    4 ماي اليوم العالمي لرجال الإطفاء.    عاجل/ أحدهم ينتحل صفة أمني: الاحتفاظ ب4 من أخطر العناصر الاجرامية    تمّ التحوّز عليه منذ حوالي 8 سنوات: إخلاء مقر المركب الشبابي بالمرسى    روسيا تُدرج الرئيس الأوكراني على لائحة المطلوبين لديها    صفاقس :ندوة عنوانها "اسرائيل في قفص الاتهام امام القضاء الدولي    عروضه العالمية تلقي نجاحا كبيرا: فيلم "Back to Black في قاعات السينما التونسية    قاضي يُحيل كل أعضاء مجلس التربية على التحقيق وجامعة الثانوي تحتج    نابل: انتشار سوس النخيل.. عضو المجلس المحلي للتنمية يحذر    منع مخابز بهذه الجهة من التزوّد بالفارينة    لهذا السبب.. كندا تشدد قيود استيراد الماشية الأميركية    14 قتيلا جراء فيضانات... التفاصيل    التوقعات الجوية لليوم    "سينما تدور".. اول قاعة متجوّلة في تونس والانطلاق بهذه الولاية    قتلى ومفقودون في البرازيل جراء الأمطار الغزيرة    فتحي عبدالوهاب يصف ياسمين عبدالعزيز ب"طفلة".. وهي ترد: "أخويا والله"    كأس تونس لكرة القدم- الدور ثمن النهائي- : قوافل قفصة - الملعب التونسي- تصريحات المدربين حمادي الدو و اسكندر القصري    نتائج قرعة الدورين ثمن وربع النهائي لكاس تونس لكرة القدم    رئيس اللجنة العلمية للتلقيح: لا خطر البتة على الملقحين التونسيين بلقاح "أسترازينيكا"    القصرين: اضاحي العيد المتوفرة كافية لتغطية حاجيات الجهة رغم تراجعها (رئيس دائرة الإنتاج الحيواني)    المدير العام للديوانة يتفقّد سير عمل المصالح الديوانية ببنزرت    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    دراسة صادمة.. تربية القطط لها آثار ضارة على الصحة العقلية    خطبة الجمعة ..وقفات إيمانية مع قصة لوط عليه السلام في مقاومة الفواحش    ملف الأسبوع .. النفاق في الإسلام ..أنواعه وعلاماته وعقابه في الآخرة !    العمل شرف وعبادة    موعد عيد الإضحى لسنة 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النص الكامل لمحاضرة الوزير الأول السيد "الباجي قائد السبسي" بجامعة "جورج تاون"
نشر في التونسية يوم 07 - 10 - 2011


بسم الله الرّحمن الرحيم
الأستاذ Carol Lancaster، عميد معهد Edmund Walsh للدراسات الدولية،
الأستاذ المتميز والسناتور Chuck Hagel ،
حضرات الأساتذة الأجلاء والباحثين والطلبة،
حضرات السادة والسيدات،
شكرا للأستاذين Lancaster وHagel لما تفضلا به من لطيف العبارات وحسن الإفادة.
لقد سعدت للدعوة لإلقاء كلمة أمام هذا الجمع المتميز من أساتذة وباحثين وقادة فكر ورأي وطلبة في هذه الجامعة العريقة التي التزمت مند نشأتها برعاية المعرفة والدفع نحو التفكير والتبصر العميق في أدق تعقيدات العالم، بهدف تنشئة أجيال من القيادات الذكية المتفتحة المتشبعة بقيم المسؤولية والخدمة العامة والمتطلعة دوما إلى الريادة، مستلهمة تحفزها من رؤيا الأب المؤسس John Carroll.
لقد تعلقت همة الأب Carroll بتأسيس منارة معرفية، أرادها جامعة حاضنة للامتياز. ولم يكن له، وهو يداعب حلمه، سوى قوة الإرادة والطموح اللامتناهي، فتوكل وعزم ولم تثنه عن عزمه عذابات البدايات واحباطات التأسيس. فزرع لنحصد، ونما حلمه ليتسع لأكثر من 16 ألف طالب بعد أن كانت البداية بستة طلبة فقط. وها هي جامعة جورج تاون اليوم قبلة للباحثين ولنخب الطلبة من الولايات المتحدة الأمريكية ومن جميع أصقاع العالم.
وليس غريبا أن يتزامن تأسيس جامعة جورج تاون مع ميلاد هذه الأمة العظيمة سنة 1789، وليس غريبا أن تتوازى المسارات، فترتقي الجامعة إلى أعلى درجات الامتياز الأكاديمي ويتمكن الشعب الأمريكي بفضل المعرفة والعلم ورجال ونساء أفذاذ من الريادة والإنجاز ومن أسباب القوة والفعل.
حضرات الأساتذة الأجلاء والباحثين والطلبة،
حضرات السادة والسيدات،
لقد ضرب الشعب التونسي يوم 14 جانفي 2011 موعدا مع التاريخ بتحقيق ثورة سلمية معتمدا فقط على إيمانه بالحرية وتطلعه إلى العدل والكرامة. وهو يسعى اليوم إلى إعادة بناء الدولة الوطنية الحديثة وصياغة عقد اجتماعي جديد مستندا في ذلك إلى مبدأ الديمقراطية ودولة القانون وعازما على القطع مع الحقبة الاستبدادية التي أسقطت مفهوم المواطنة وقيم الجمهورية وسطت على إرادة الشعب ومارست سياسات القمع والفساد.
لقد فاجأت الثورة التونسية الجميع من سياسيين وملاحظين وباحثين مختصين، بل أنّها فاجأت التونسيّ الثائر نفسه الذي اكتشف في ذاته طاقة طالما أنكرها وتوقا إلى الحرية والكرامة لم يخله ممكنا وإرادة حياة ظلّ لزمن فقط يرددها في أبيات الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي (اذا الشعب يوما أراد الحياة/ فلا بد أن يستجيب القدر).
ومما عمق فعل المباغتة أن هذه الثورة قامت دون قيادات وزعامات ودون إيديولوجيا ناظمة ودون سابق تخطيط ودون لجوء للعنف أو للتمرد المسلح أو للانقلابات العسكرية ودون تدخل أجنبي. لقد صنع الشباب سلاحها وأدواتها المتمثلة في التحدي المدني والتظاهر السلمي والاستعمال الذكي للوسائط الإعلامية الحديثة. وهي جميعا تشكل مقومات فرادة وأصالة الثورة التونسية.
واذا كانت هذه الثورة تبشيرا بنهاية أسطورة "الاستثناء العربي" وردا على مقولات التصادم بين قيم الديمقراطية والثقافة العربية الإسلامية وتكذيبا لثنائية الغرب العقلاني والشرق الأهوائي، فإنها في نفس الوقت تأكيد لريادة تونس ولفرادة تجربتها التاريخية إذ أن انطلاق قبس الحرية من تونس ليس وليد الصدفة، بل هو امتداد لإرث حضاري مشبع بمفاهيم الحرية والحداثة وتأصيل لتراكمات إصلاحية تحديثية شكلت الوعي السياسي للتونسيين في اتجاه التفاعل العميق مع مفاهيم الحرية والعدل.
دعوني، في هذا السياق، أستعرض بعض محطات التاريخ المعبرة عن هذا الزخم الإصلاحي وأشير أوّلا إلى قرطاج، فكما قال شكسبير في مسرحية العاصفة "تونس هذه هي قرطاج، يا سيدي
" (This Tunis, Sir, was Carthage).
ألم يشد أرسطو في كتابه "في السياسة" بدستور قرطاج ومؤسساتها التشريعية والقضائية التي ربما ظلت تجربتها راسخة في اللاوعي التاريخي، حتى بعد تدمير قرطاج وطمس معالمها؟
كما لا يسعني إلا أن أشير إلى أحد عباقرة تونس، العلاّمة عبد الرحمان ابن خلدون، الذي درس في القرن الرابع عشر، في كتابه "المقدمة" طبيعة الدولة والديناميكيات التي تتحكم فيها وخلف أدبيات عميقة في السياسة ونظمها وخلص إلى نظريته الشهيرة "العدل أساس العمران" وحذر من الفساد ومن ثنائية الحكم وتملك موارد البلاد فأكد أن "تجارة السلطان مضرة بالرعايا ومفسدة للجباية"، فقال "أعلم أن السلطان لا ينمي ماله ولا يدر موجوده إلا الجباية. وإدرارها إنما يكون بالعدل في أهل الأموال والنظر لهم بذلك. فبذلك تنبسط آمالهم وتنشرح صدورهم للأخذ في تثمير الأموال وتنميتها فتعظم منها جباية السلطان‏.‏ وأما غير ذلك من تجارة أو فلح فإنما هو مضرة عاجلة للرعايا وفساد للجباية ونقص للعمارة‏".‏ ألم ينتفض التونسيون انتصارا للعدل وضد فساد دكتاتور اعتبر البلد ملكا خاصة له ولذويه، فاستولى على حصص كبيرة من اقتصادها ومواردها؟
ولعل الحقبة الأكثر زخما في الفكر الإصلاحي التونسي هي حقبة القرن التاسع عشر التي شهدت محاولات إصلاح وتحديث نظر لها ابن أبي الضياف في كتابه "إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان " وخصوصا خير الدين باشا في كتابه "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك". وقد تعمق خير الدين باشا في دراسة سبل الإصلاح، فأدرك أن مواجهة تحديات الحداثة تتوقف عند الاستجابة لمتطلبات الدولة القائمة على المؤسسات وعلى شرطي العدل والحرية، فتقدم الغرب في المعارف، كما قال، "ناتج عن التنظيمات المؤسسة على العدل والحرية". وقد شهدت فترة خير الدين إصلاحات رائدة فكانت تونس أول بلاد عربية إسلامية قامت بإلغاء الرق وذلك منذ 1846 أي قبل فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية.
كما أقرّت منذ 1857 في وثيقة "عهد الأمان" المساواة أمام القانون والأداءات وحرية ممارسة الديانات لسائر السكان. وصدر هذا الإعلان يوم 10 سبتمبر 1857 ، في عهد محمّد باي، وهو يعتبر أول إعلان لحقوق الإنسان في تونس، ومما جاء فيه:
"...وهذا القانون السياسي يستدعي زمنا لتحريره وترتيبه، وتدوينه وتهذيبه، وأرجو الله الذي ينظر إلى قلوبنا أن تستقيم به أحوال الرئاسة، ولا يخالفه ما ورد عن السلف الصالح... وتأسيسه على قواعد:
الأولى: تأكيد الأمان لسائر رعيتنا وسكان إيالتنا على اختلاف الأديان والألسنة والألوان، في أبدانهم المكرمة، وأموالهم المحرمة، وأعراضهم المحترمة، إلا بحق يوجبه نظر المجلس بالمشورة ويرفعه إلينا ولنا النظر في الإمضاء أو التخفيف ما أمكن أو الإذن بإعادة النظر.
الثانية:تساوي الناس في أصل قانون الأداء المرتب أو ما يترتب...
الثالثة: التسوية بين المسلم وغيره من سكان الإيالة في استحقاق الإنصاف، لأن استحقاقه لذلك بوصف الإنسانية لا بغيره من الأوصاف، والعدل في الأرض هو الميزان المستوي... "
وقد وقع التأكيد على هذه الضمانات في دستور 1861 وهو أول دستور يقع إقراره في العالم العربي الإسلامي. ومن أهم ما جاء به:
• ضمان التزامات عهد الأمان
• الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية
• إنشاء المجلس الأكبر للاضطلاع بالسلطة التشريعية والسهر على تنفيذ بنود الدستور
• إنشاء شبكة من المحاكم تباشر القضاء
وقد تبنّت الحركة الوطنية التونسية منذ بروزها المنطلقات والمبادئ التي تميّزت بها الحركة الإصلاحية والتي تنبني علاوة على الغيرة على استقلال البلاد وسيادتها، على الحداثة والتفتح والتسامح ونشر التعليم العصري والضمانات الدستورية والحريات الديمقراطية وملاءمة الإسلام مع مقتضيات العصر. ناهيك أن المطالبة بإحياء دستور 1861 وإرساء مؤسّسات دستورية تحمي المواطنين من التجاوزات وتقر المساواة بين سكان البلاد على اختلاف أجناسهم كانت الشغل الشاغل للوطنيين التونسيين.
وشمل المد الإصلاحي الميادين الاجتماعية فنادى الطاهر الحداد في ثلاثينات القرن العشرين إلى حرية المرأة وشهدت نفس الفترة نشأة الحراك النقابي الذي قاد إلى تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل سنة 1946.
وتبنت دولة الاستقلال سنة 1956 هذا الإرث الإصلاحي فانخرطت في مشروع تحديثي للدولة تجسد بالخصوص في إرساء نظام جمهوري وإقرار مجلة للأحوال الشخصية التي كرست المساواة بين المرأة والرجل ونشر التعليم المجاني الذي شكل، مع تحرير المرأة، الرافعة الأساسية (Levier majeur) للتنمية البشرية في البلاد إضافة الى توفير العناية الصحية واتباع سياسات عقلانية منفتحة.
وكان الزعيم الحبيب بورقيبة رمزا لهذا المشروع التحديثي الرائد. غير أن ضغوطات مرحلة بناء الدولة وتشكيل الوحدة الوطنية غيبت طموحات الشعب التونسي في التأسيس للديمقراطية، فظل المشروع التحديثي غير مكتمل ومفتقرا لمقوماته السياسية، رغم تنامي الحراك والوعي التحرري.
حضرات الأساتذة الأجلاء والباحثين والطلبة،
حضرات السادة والسيدات،
إن غايتي من استعراض هذه المحطات من الفكر الإصلاحي والممارسة المستنيرة ليست فقط تفسير الريادة التونسية في الانخراط في الحداثة وكونية قيم الحرية والعدل فحسب، بل هي كذلك تأكيد على أن الانتقال الديمقراطي في تونس يرتكز على أسس صلبة ويتصل بمرجعية أصيلة، أحسبها ركنا أساسيا يدعم الثقة في المستقبل ويؤشر للتفاؤل والنجاح. كما أن هذه المحطات تطمئن على مصير المكتسبات الحداثية التي تغلغلت في الوعي الفردي والجماعي، مما يقلص من أخطار الردة والانكماش على الذات.
و من دواعي الثقة في المستقبل أيضا، مؤهلات النجاح الأخرى التي تتميز بها تونس، من أسس اقتصادية سليمة نسبيا ومن انسجام ووحدة عرقية وثقافية ومن حجم صغير ترابيا وبشريا يجعل من معادلة التكلفة والمكسب cost/benefit) ) الأكثر مردودية، إضافة إلى مستوى النخب والموارد البشرية التي تتمتع بها.
غير أن هذه المزايا التفاضلية لا يمكن أن تحجب جسامة التحديات التي علينا رفعها خلال هذه الفترة الانتقالية وعلى المدى المتوسط خلال فترة بناء المؤسسات الديمقراطية وترسيخ ثقافتها.
لقد فجرت الثورة مطلبية كبيرة وتطلعات مشروعة عاجلة خصوصا في مجالي التشغيل والتنمية الجهوية. كما كشفت هشاشة بعض أجهزة الدولة المثقلة بإرث استبداد وتراكمات فساد تتطلب هي الأخرى معالجة عاجلة وحكيمة تجنبنا الهزات وأخطار الانفلات والقفز في المجهول.
ومما عمق تعقيدات هذه الفترة الانتقالية، تداعيات انتقال العدوى الجذابة للثورة إلى الشقيقة ليبيا، مع ما ترتب عن ذلك من مخاطر أمنية وعسكرية ومن مسؤوليات جسيمة تحملها الشعب التونسي بكل سخاء لاحتضان مئات الآلاف من اللاجئين من أشقائنا الليبيين وغيرهم. ولكم تنفسنا الصعداء عند انتصار إرادة الشعب الليبي الشقيق وانحسار التهديدات التي كان نظام القذافي يمثلها، رغم أن المحيط الإقليمي لم يستعد بعد استقراره وتوازنه بصفة كاملة.
ولقد عملت منذ تولي مسؤولياتي الحالية مع فريق العمل الحكومي على وضع الخطط اللازمة لمواجهة تحديات المرحلة ووضع لبنات البناء المستقبلي .
وحرصت في ذلك على إتباع نهج التوافق بين مختلف القوى السياسية والأطراف الاجتماعية من منطلق الوعي بأهميته وتلاؤمه مع مقتضيات المرحلة الانتقالية التي تعيشها تونس وطبيعة المشروع التأسيسي الذي نحن بصدده وبأنّه يبقى رغم صعوبته السبيل الأمثل وربما الوحيد لنجاح المسار الانتقالي. ومن أهمّ هذه المقتضيات مشاركة كل القوى في الشأن الوطني وفي تصور مستقبل البلاد بغضّ النظر عن حجمها ووزنها الحالي.
فبعد أن تمّ خلال الأشهر الموالية للثورة تحقيق جملة من المكاسب الكبرى تمثلت بالأساس في إقرار إجراء انتخابات حرّة وشفافة للمجلس الوطني التأسيسي الذي سيقوم بصياغة الدستور الجديد وإحداث لجنة وطنية مستقلة لتنظيم الانتخابات ووضع قانون انتخابي يقوم على التناصف التام بين الرجل والمرأة في القائمات الانتخابية وإقرار العفو التشريعي العام لفائدة جميع المساجين السياسيين خلال النظام البائد وإقرار استقلال القضاء وحرية الصحافة وحرية التنظّم وتشكيل الأحزاب وتكوين الجمعيات وانضمام تونس إلى الاتفاقيات والبروتوكولات الدولية ذات العلاقة بحقوق الإنسان بما في ذلك ميثاق روما للمحكمة الجنائية الدولية ورفع التحفظات بخصوص عدد من المعاهدات الاخرى،
وبعد أن تمّ إقرار تقديم تعويضات لفائدة عائلات شهداء الثورة وتقديم المساعدات الإنسانية والصحية للاجئين من ليبيا ووضع خطّة عاجلة هي بصدد التنفيذ للاستجابة إلى الحاجيات المتأكدة للبلاد من حيث دعم الجهات وتنمية التشغيل وتسوية الوضعيات الاجتماعية وتنشيط الاقتصاد وتعبئة التمويلات الخارجية وإطلاق مشاريع في إطار الشراكة بين القطاعين الخاص والعام وإقرار إصلاحات سريعة في مجال الحوكمة والشفافية،
نطرح اليوم رؤيتنا للمستقبل من أجل تحقيق الرخاء والعدالة الاجتماعية من خلال عشر أفكار كبرى تؤسّس لنموذج تنموي وعقد اجتماعي جديدين.
وتتمثل هذه الأفكار في:
1. بناء الثقة من خلال المسؤولية والشفافية ومشاركة المواطنين الاجتماعية
2. ضمان تنمية شاملة ومتوازنة ومتكافئة
3. تغيير هيكل الاقتصاد باستعمال العلم والتكنولوجيا
4. خلق ديناميكية داخلية تؤدي إلى الإبداع والمبادرة الحرة
5. إخراج البلاد من التقوقع و وضعها في دائرة عالمية واسعة ونشطة
6. تكوين خبرات وطنية عالية والحفاظ عليها واستقطاب الخبرات الدولية
7. إرساء العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص
8. ضمان التمويل المجدي والمتوازن للتنمية
9. إعادة الاعتبار للخدمات العامة وللعمل المدني
10. الاستخدام الأمثل للموارد والحفاظ على البيئة
وتحدّد رؤيتنا المبادئ التي ينبغي أن تستند إليها الإصلاحات والسياسات وتتعلق بدور الدولة الداعم للتنمية في إطار مقاربة تكرس قيم الجمهورية ومبادئ الديمقراطية وحرية المبادرة ودور القطاع الخاص المحرك للنمو والخالق للثروة ومبدأي الحرية الفردية والعدالة الاجتماعية اللذين يمثلان أساس التطور الذي لا يمكن تحقيقه إلا بالحوار بين الأطراف الاجتماعية في إطار وفاق اجتماعي ودور التربية والثقافة والصحة كعناصر مكونة لحرية الأفراد وكركائز أساسية للمجتمع وكضمان للتآزر الاجتماعي ودور المجموعة والأفراد في ضمان حسن استغلال الموارد والإمكانيات والفرص المتاحة للبلاد.
وترتكز رؤيتنا للمستقبل على شرطين أساسيين أحدها داخلي ويتعلّق بالاستثمار في رأس المال البشري من أجل تطويره وتمكينه من ناصية العلم والمعرفة باعتباره مفتاح التقدّم والرقي والآخر خارجي ويتمثّل في إرساء أسس جديدة للعلاقات الدولية تنمي المبادلات والشراكة وتكرّس الاستقرار والسلم في العالم وخصوصا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
أوّلا: الاستثمار في رأس المال البشري
لقد راهنت تونس منذ الاستقلال على العنصر البشري ويتعين في هذه المرحلة إعادة تأهيله وتمكينه من الانخراط الفاعل في مشروع وطني استراتيجي تكون فيه المعرفة المحرك الرئيسي للنمو. ويقوم هذا المشروع على إرساء مثلث المعرفة المتكوّن من أركان التعليم والبحث والمؤسسة الاقتصادية.
التعليم: إن استثمار جيل الاستقلال في التعليم مكن تونس من تجاوز افتقارها إلى موارد طبيعية. غير أن مقتضيات إرساء مجتمع المعرفة من ناحية ونقائص السياسة التعليمية التي تم إتباعها خلال العقدين الأخيرين والتي أثرت سلبا على نوعية التعليم ومستواه من ناحية أخرى، تحتم علينا مراجعة خططنا التعليمية حتى تكون المدرسة والجامعة ومراكز التكوين أدوات إنتاج للذكاء والامتياز وللمهارات الإبداعية.
البحث: بمواكبة ثورة المعرفة المتنامية واستيعابها وتكييفها مع الاحتياجات المحلية من خلال إحداث أقطاب فعالة للبحث والامتياز العلمي ترتبط بشبكات عالمية وتؤسس لشراكة ولجدلية خلاقة بين المؤسسات الأكاديمية والبحثية من جهة والمؤسسة الاقتصادية المحلية والعالمية من جهة أخرى.
المؤسسة الاقتصادية: بتوفير مناخ استثمار ملائم للقطاع الخاص كمحرّك رئيسي للنمو الاقتصادي وتوفير السبل والحوافز لنقل المعرفة ونتائج البحث إلى مجالات ابتكار وتجديد داخل المؤسسات الاقتصادية.
إن هذه الأركان تمثل، في نظري، مفاتيح لآفاق جديدة لتونس كقطب حداثي وعلمي وتكنولوجي تخدم المنطقة جميعها من خلال تقديم أنموذج للنجاح يعتمد منوالا تنمويا مستديما ومتوازنا ومن خلال بعث ديناميكية إقليمية تكون تونس قاطرتها.
وإني أرى أن الولايات المتحدة الأمريكية بثقلها التكنولوجي والعلمي وبريادة تجربتها، لقادرة على أن تساعد تونس على إرساء هذا النموذج وعلى إعطاء مشروعنا الدفع والدعم اللازمين لإطلاق ديناميكية داخلية لا تقبل الخمود أوالعودة إلى الوراء.
ويمكن تحقيق ذلك من خلال فتح أبواب الجامعات الأمريكية أمام الطلبة والباحثين التونسيين، وهو ما يقتضي إطلاق برامج منح دراسة وبحث طموحة، ومن خلال إرساء تبادل أكاديمي مكثف ووضع مشاريع إستراتيجية للبحث المشترك وأيضا من خلال التشجيع على انتصاب مراكز بحث وجامعات أمريكية بتونس.
وإني أعتقد أن استثمارا أمريكيا في هذا المجال ستكون له عائدات إيجابية في تعزيز أسس النجاح الاقتصادي في المنطقة وترسيخ الثقافة الديمقراطية التي ننشدها جميعا.
ثانيا: تنقية العلاقات الدولية
ترتكز رؤيتنا للمستقبل في المقام الثاني على ضرورة توفير سبل الاستقرار والسلم والانسجام بين الشعوب من خلال إيجاد حلول نهائية للنزاعات القائمة وبؤر التوتر وفي مقدّمتها قضية الشعب الفلسطيني وفتح مجال أوسع للمبادلات والشراكة وفرص أكبر للتقارب بين الشعوب.
إن تونس لم ولن تسعى إلى تصدير ثورتها ولن تنصب نفسها قائدا أو ملهما، فهي لا تزال في بدايات نحت مستقبل جديد واستكشاف مسار طويل محفوف بالتحديات، وهي في تقاليدها تنأى بنفسها عن التدخل في شؤون الدول الأخرى.
غير أن نفس الحرية لا يعترف بالحدود وشعلة الثورة لا تأبه بسيادة الدول. فالعالم العربي رغم محاولات الإصلاح خلال العقدين الماضيين، ظل خارج المسار الديمقراطي. وإني أعتقد أن هذه المرحلة هي مرحلة العالم العربي وأن هذا الربيع الذي استبشرنا به في تونس وامتد إلى مصر وليبيا سيزهر في أرجاء أخرى من العالم العربي.
ألم يقل George Washington في رسالته إلى James Madison :"الحرية نبتة سريعة النمو حالما تنبت عروقها"
فبعد تحرر الدول من الاستعمار في منتصف القرن الماضي، قد حل اليوم زمن تحرر الشعوب. انه لا يمكن اليوم التصدي لرياح التغيير ولتوق الشعوب للحرية. فكما قال John Kennedy "إذا لم تسمح بالتحولات السلمية، فانك لن تستطيع منع الثورات العنيفة"، وهو ما يدركه الكثير في عالمنا اليوم وهو ما يسعى الكثير لتحقيقه، كل حسب خصوصيات وضعه.
وإذا كنا جادين في ترحيبنا بالربيع العربي وساعين لرعايته حتى يثمر مجتمعات حرة ومتوازنة وفي سلام مع نفسها ومع العالم وحتى لا يتحول الربيع إلى صقيع شتاء أو إلى عواصف وأعاصير، فانه علينا أن نستكمل مساره من خلال معالجة عادلة ودائمة للنزاع الفلسطيني الاسرائيلي.
إن محورية القضية الفلسطينية وتغلغلها في الوجدان العربي وتراكمات المظالم والمآسي التي تعلقت بها تجعل من تسويتها شرطا لاستكمال الربيع العربي. فإذا ما لم نعترف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وبناء دولته المستقلة باعتماد الشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن فان اغواءات التطرف والعنف ومنطق الانغلاق ورفض الآخر والبحث في الماضي عن منظومات وهمية لقيم تصادمية، ستظل عوامل إرباك ومصدر خطر دائم لكل مسعى ديمقراطي ولكل شراكة بيننا في قيم الحرية والحوار.
حضرات الأساتذة الأجلاء والباحثين والطلبة،
حضرات السادة والسيدات،
إننا اليوم منفتحون على آفاق جديدة وماضون بكل عزم في صيرورة لا رجعة فيها معتمدين في المقام الاول على قدراتنا الذاتية ومتطلعين الى مساندة المجموعة الدولية لاستكمال المسار الذي اندرجنا فيه.
وللولايات المتحدة الأمريكية دور أساسي في تعبئة هذه المساندة وهو دور تقوم به بإرادة ثابتة نتطلّع إلى أن يتدعّم في الفترة المقبلة في الاتجاه الذي بينته.
إن صداقتنا تفوق قرنين من الزمن حيث كانت تونس من ضمن البلدان الأولى التي اعترفت باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية كما تمّ توقيع أول اتفاق صداقة وتجارة بين البلدين في 26 مارس 1799 بينما احتضنت الولايات الأمريكية المتحدة زعماء الحركة الوطنية التونسية من أجل الاستقلال وفي مقدمتهم الزعمان الحبيب بورقيبة وفرحات حشاد وكانت أولى الدول الكبرى التي اعترفت باستقلال تونس وداعمة كبيرة لبناء الدولة التونسية الحديثة. وهذه مناسبة لأتقدّم إلى الشعب الأمريكي بعبارات الشكر لما قدّمه من دعم متواصل لتونس على امتداد القرنين الماضيين .
وانخراطنا اليوم بثورتنا في القيم التي أعلنت عنها الثورة الأمريكية لخير حافز لنا لدعم العلاقات بين بلدينا وسند لتونس في مسارها الجديد وفي طموحها الراني إلى مستقبل أفضل لأبنائها وإلى ربيع زاهر لكامل المنطقة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.