دخلت قضية إبادة الأرمن التي اتهمت الدولة العثمانية بارتكابها قبل نحو قرن منعطفا جديدا في الفترة الاخيرة، إذ بدا أنها قد تحوّلت الى أجندة برلمانات العديد من الدول الغربية كما هو الحال اليوم بين تركيا وفرنسا. وقد عادت هذه القضية بقوّة الى الواجهة إثر اتخاذ فرنسا خطوات باتجاه تجريم انكار الابادة الجماعية بحق الأرمن على يد الجنود العثمانيين في العام 1915 وهو ما دفع أنقرة الى إلغاء كل الاجتماعات الاقتصادية والسياسية والعسكرية واستدعاء سفيرها في فرنسا. وأقرّ المشرّعون في الجمعية الوطنية الفرنسية بغالبية ساحقة مشروع قانون يجرّم انكار الابادة الارمنية لكن الحضور لم يتجاوز ال70 نائبا من أصل 577 على أن يناقش مشروع القانون أمام مجلس الشيوخ العام المقبل. وقبل فرنسا كانت الولاياتالمتحدة قد أشعلت أزمة مماثلة مع تركيا عام 2001 حين أصدر الكونغرس الأمريكي قرارا بإدانة الامبراطورية العثمانية بسبب تلك الابادة وذلك قبل أن تتراجع واشنطن في وقت لاحق عن قرارها هذا بناء على مبادرة من الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون الذي استحضر آنذاك الأهمية القصوى للعلاقات الاستراتيجية بين بلاده وأنقرة والتي رأى أنها تخدم المصالح الأمريكية العليا في مناطق الشرق الأوسط وآسيا الوسطى والقوقاز.
تركيا التي رفضت الهجوم الغربي عليها بقوة أنكرت هذه التهمة وأعلنت أنّ 300 ألف فقط قتلوا خلال معارك جرت بين الأرمن وجماعات مسلحة لا تتلقى أوامرها من الحكومة العثمانية آنذاك كما تقول الرواية الغربية التي تتحدث عن مقتل نحو 1.5 مليون أرمني في تلك الأحداث. ورغم نجاح المساعي التركية في الحدّ من ارتدادات تلك القضية، فإن قضية الابادة الجماعية ضدّ الأرمن عكست حقيقة وطبيعة هذه الأزمة التي ظلت آثارها باقية حتى الآن حيث اتخذ منها الاتحاد الأوروبي ذريعة لتعطيل انضمام تركيا إليه مثلما كادت أن تحدث شرخا في العلاقات التركية الأمريكية... بيد أن أنقرة التي وجدت نفسها في «زاوية صعبة» أمام هذه الحملة التي تستهدف تاريخها تلخصت ردود فعلها حتى الآن في التلويح بفرض عقوبات على الدول التي تعترف بحصول الابادة وحرمانها من الصفقات الاقتصادية والعسكرية معها على غرار الحالة الفرنسية حيث هدّدت أنقرة باقرار قانون مماثل بشأن ما ارتكبته فرنسا من مجازر في افريقيا خلال القرن الماضي ولاسيما في الجزائر فضلا عن حالة من التعبئة الداخلية ضدّ مصالح وسفارات الدول التي تعترف بالابادة. إلاّ أن من يراقب المواقف السياسية التركية وتحديدا مواقف رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان سيرى أنه سيعمل بنوع من المهادنة ومحاولة امتصاص الحملة وتمرير الأمور بأقل الخسائر وذلك لحسابات داخلية أولا... وثانيا لتفويت الفرصة على بعض القوى والدول الأوروبية التي تسعى جاهدة الى وضع عقبات جديدة في طريق المساعي التركية للانضمام الى العضوية الأوروبية كما سيكتشف أن ثمّة قناعة بدأت تتكون تدريجيا لدى الأتراك مفادها أنه من الأجدى التفكير في أسلوب جديد لمواجهة الأمر من خلال التوجه الى إعادة العلاقات التركية الارمنية الى مسارها ومدارها الطبيعيين وهو ما ترجمه بوضوح توجه أنقرة الى تشكيل لجنة تركية أرمنية من كبار المؤرخين قبل فترة من الزمن وذلك في مسعى لاحتواء الأزمة وطيّ صفحتها بشكل نهائي... لكن بلا شكّ ظلت هذه المساعي تصطدم في كل مرة ب«جهود مضادّة» يقوم بها اللوبي الارمني في أوروبا الذي استطاع أن يفجّر قضية إبادة الأرمن عبر الدوائر الاعلامية الأوروبية... كما نجح في نقلها الى داخل أروقة البرلمان في بعض تلك الدول مستغلا في ذلك حالة الريبةوعدم التعاطف التي تنتاب الأوروبيين إزاء كل ماهو عثماني أو حتى ما يمت إليه بصلة.. وهي حالة تشكلت عبر سنوات طوال تخلّلها ميراث تاريخي وثقافي أفرزته فترة مثيرة من العلاقات بين الامبراطورية العثمانية والغرب الأوروبي...
وفي فرنسا كانت المحطة الأولى حيث كانت للصراع بين الأرمن والأتراك العثمانيين رواسب ملموسة انعكست على العلاقة بين الأرمن والأتراك المقيمين في باريس خلال العصر الحالي، إذ شهدت الأراضي الفرنسية مصادمات وأعمال عنف ضدّ ديبلوماسيين ومصالح تركية في فرنسا على أيدي الأرمن المقيمين هناك... وهي أعمال راح ضحيتها عشرات الديبلوماسيين خلال الفترة الممتدة بين عامي 1974 و1984 غير أنه في عام 1998 نجح اللوبي الأرمني بالجمعية الوطنية الفرنسية في الحصول على اعتراف من هذه الجمعية ذاتها ب«الابادة الجماعية».. وهي الخطوة التي فجرت بركانا من الغضب في تركيا التي حذرت فرنسا من مغبة إقرار مشروع القانون. لكن كل هذه التهديدات لم تجد نفعا ولم تفلح في ثني الفرنسيين عن إدانة الأتراك في ما عرف ب«قضية الأرمن»، لتبقى الأزمة بين الجانبين مفتوحة بذلك على مؤشرات واحتمالات «لا تطمئن».