لا يختلف اثنان حول خُطورة المرحلة الحاليّة في تاريخ تونس بعد مرور سنة على فرار الطّاغية، فماذا تحقّق من أهداف ثورة الحرّيّة والكرامة؟ لقد اعتبر حزب الوفاق الجمهوريّ منذ تأسيسه أنّ الأمن بمفهومه العامّ يُمثّل أولى الحُرّيّات، إذ لا يُمكن بدُونه تحقيق كرامةٍ ولا تنميةٍ. وخِلافًا لكلّ الاِنتظارات خاصّةً منها المُتعلّقة بالشّباب مُهندس الثّورة ورمزُها وغايتها، قد تزايد عدد المُعَطّلين عن العمل وارتفع عدد الفاقدين لمواطن شغلهم فمنهم من وصل به اليأس حدّ حرق نفسه، ومنهم من ألقى بنفسه في عرض البحر، علّه يجد بصيص أملٍ في الضّفّة الشّماليّة للبحر الأبيض المتوسّط إن كُتِبَتْ له النّجاة من غرق شبه مُؤَكّد. ولئن ثبت بما لا يدعُ مجالاً للشّكّ تورّط أطراف مختلفة، في الاِنفلاتات الأمنيّة المُسَجّلة على امتداد الأشهر العشرة الأولى من السّنة الإداريّة 2011 ، مع فشل الحُكومات المُؤَقَّتة السّابقة في فرض الأمن من جديد، فإنّ الأحداث المُسَجّلة منذ عرض شريطين أحدُهما في قاعة سينما والآخر على شاشة قناة تلفزيّة خاصّة قد أفرزت انتشارًا تدريجيًّا ومدروسًا لجماعات تدّعي «مُكافحة كُفر المُسلمين»، في إحدى أكبر منارات الإسلام واعتداله : بلاد عاصمة الأغالبة والإمام سحنون والمُفكّر بن عاشور وغيرهم من الذين ساهموا ببُحوثهم ودراساتهم في نشر قيم التّسامح والاِعتدال والوسطيّة ونحتوا الهويّة العربيّة الإسلاميّة التّونسيّة المُتميّزة ولقد توالت الأحداث وتسارعت حتّى أفضت إلى توسّع دائرة تحرّك هذه المجموعات وتنوّع تدخُّلاتها بين فرض النّقاب، و«الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر»، إلى الاِعتصام بعدد من مؤسّسات التّعليم العاليّ خاصّة منها كلّيّة الآداب بمنّوبه، ووُصولاً إلى الحُلول محلّ هياكل الدّولة للتّدخّل في الشّأن العامّ أمنيًّا واجتماعيًّا، وفق مفهومهم للدّولة بعدد من المدن التي نذكر منها سجنان وأمام صمتِ وتجاهل السّلطة الحاكمة الجديدة، يمكن فهم حالها على أنّها مُستترةٌ - باعتبار أنّ السّكوت من علامات الرّضاء - إذ رفضت كلّ تفعيلٍ للمفهوم الحقيقيّ لدولة القانون والمُؤسّسات الذي يتطلّب وضع حدّ لمُمارسات هذه الجماعات وإنصاف ضحاياها وفرض هيبة الدّولة وتأمين حُقوق أغلبيّة المُواطنين في تلقّي أبنائهم للعِلم والتّعبير وحرّيّتهم في اللّباس ومن بين الظّواهر الغريبة التي برزت أخيرًا، تشكيل عناصر مُوازيةٍ للسّلطة ودخيلةٍ عن سلك الأمن الرّسميّ، التي تولّت حماية مواكبَ رسميّةٍ لاستقبال ضُيوف الدّولة وشاركت في مواجهة المسيرات والاِعتصامات الاِحتجاجيّة السّلميّة كتلك التي تمّت أمام مقرّ الحُكومة بالقصبه وأمام مقرّ المجلس الوطنيّ التّأسيسيّ وأمام مقرّ وزارة الدّاخليّة بشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة، تُعبّر كلّها أساسًا عن مطالبَ مشروعةٍ تتّصل بالحرّيّة بكلّ أشكالها وتدعو لتصحيح مسار الاِنتقال الدّيمقراطيّ فتحقق أهداف الثّورة ومن دواعي الاِستغراب أنّ عناصر هذه المجموعات تحمل رايات ولافتات وشعارات ذات توجّه سياسيّ وعقائديّ مساندة للسّلطة و تحاول تكريس وتهميش مؤسّسات الدّولة المدنيّة كالإعلام والقضاء، لفرض مفهوم دولة الحزب، بعد أن عانت تونس من مظالم حزب الدّولة واعتبارًا لكلّ ما سبق وقصد العمل على تحقيق أهداف ثورة الكرامة في هذا المجال، فإنّ السّلطة مَدعُوّةٌ لوضع حدٍّ لتجاوزات هذه العناصر الخارجة عن القانون بإيقافها وتقديمها للعدالة، حتّى لا تصبح هذه المُمارسات قاعدةً للعمل السّياسيّ في تونس، ولكي يستعيد الموطن أمنه وثقته في مؤسّسات الدّولة و في عُلويّة القانون لا غير وحتّى تبقى الدّولةُ المالك الحصريّ لشرعيّة استعمال العنف ويبقى كلّ هذا هامشيًّا ومُصطنعًا مُقارنةً بالملفّات الحارقة والمُستعجِلة، المُتعلّقة أساسًا بمنح تعويضاتٍ لعائلات الشّهداء والتّكفّل الكلّيّ بمداواة جرحى الثّورة - دون الاِستعانة بطرف أجنبيٍّ -، والشّروع الفعليّ في تفعيل العدالة الاِتقاليّة ومنح الأولويّة للقيام بالإصلاحات الحثيثة في ما يتعلّق بالتّشغيل والوضع الاِجتماعيّ للفئات الفقيرة والمعدمة.