يكشف السيّد محمّد الكيلاني الأمين العام للحزب الاشتراكي اليساري في هذا الحديث عن جزء مما يدور في رحى كواليس السياسة اليوم من حسابات ضيّقة وإملاءات في وقت يكاد يكون فيه الجميع على اتفاق على ضرورة إيجاد توازن سياسي تحتكم إليه المرحلة الدقيقة التي تمرّ بها البلاد. ما هي خلفيات استبعاده من المشاورات التي يجريها القطب الديمقراطي الحداثي لتشكيل هيكل سياسي جديد، وما هي قراءته لهذا الحراك السياسي القائم حاليا ورؤيته لمصير اليسار التونسي وتقييمه لعمل الحكومة وأداء المعارضة؟ هذه الأسئلة وغيرها يجيب عنها رئيس الحزب الاشتراكي اليساري محمّد الكيلاني في سياق هذا الحوار: كيف تقيّمون الوضع داخل «القطب» اليوم ولماذا تمّ استبعاد الحزب الاشتراكي اليساري من الاجتماع الثلاثي الذي جرى أمس الأول بين «القطب» وحركة التجديد وحزب العمل التونسي ومن المشاورات التي خاضها القطب من قبل مع بعض الأطراف في مسعى إلى تشكيل جبهة سياسية موحّدة؟ ما جرى أنّ مجموعة من المستقلّين داخل القطب هي التي أمضت اتفاقا باسم القطب مع حركة التجديد وحزب العمل التونسي لتكوين حزب جديد، وهذا ليس من حقّها لأنّ «التجديد» والمستقلين من مكونات القطب وقد كان من الأجدر والأصوب قبل أن يقطعوا هذه الخطوة أن يتشاوروا مع بقية مكونات القطب خاصة أنّها ليست منسجمة مع هذه الفكرة، لذلك اعتبرنا أنها عملية انقلابية على القطب، إذ لم يكن مجديا التوجّه نحو هذا المنحى وما رأيته أنّ بعض المسؤولين في حركة التجديد مصرّون على هذا الخطإ وهم مطالبون بمراجعة أنفسهم.نحن لسنا ضدّ أن يجتمعوا فهذا حقهم ولكن ليس من حقّهم أن يُحمّلوا الناس ما لا يحتملون. قلت إنّ بقية مكونات القطب غير راضية بهذا التمشي، فما هي البدائل التي يملكها الحزب الاشتراكي اليساري وما هي رؤيته لتوحيد جهود الأطراف التي يلتقي معها؟ كنّا دعونا إلى تكوين جبهة ديمقراطية اجتماعية تحترم الخصوصيات الحزبية وخصوصيات المجتمع المدني المشارك فيها وعلى أساس ذلك بإمكانها أن تمنح الفرصة لكل التوجهات الفكرية والسياسية للإسهام في تقديم أفضل ما لديها في عملية الوحدة هذه، هذا في العمل الجبهوي المشترك، أما العمل الحزبي فيفترض تذويب الخصوصية أو على الأقل الحدّ منها، وأعتقد أنّ هذه المسألة مغلوطة جدّا لأنّ الخصوصيات هي عملية إثراء للمشهد السياسي والمشهد الفكري وهي التي تمنع كلّ تسلّط فكري أو سياسي في المستقبل، وهي التي تجعل كلّ مكوّنات المجتمع تجد نفسها في هذا الإطار الجامع، الإطار المفتوح وغير المتحزّب. وقد كانت لنا مبادرة في هذا الاتجاه مع حركة التجديد عام 2004 ونعتبر أن القطب كان امتدادا لها، ولكن القطب الآن فشل في الانتخابات التأسيسية ولم يؤدّ الدور المطلوب منه، وكذلك في السعي إلى تحوّله إلى مكوّن سياسي غلبت عليه الحسابات السياسية الضيقة ممّا سيؤدّي به إلى الاندثار ونهاية التجربة.إذا كان الأمر كذلك ما هو البديل إذن وما هو الحلّ؟ الحل في بناء مشروع جديد، والآن جرى انقسام طبيعي بين أطراف تنتمي إلى اليسار وإلى الأوساط الشعبية أزيحت من هذه «اللمّة السياسية» بينما اجتمع الآخرون واتحدوا... وبذلك لا يمكن للقطب أن يصبح حزبا شعبيا. القطب دخل الانتخابات ب20% من إمكاناته وطاقاته التي لو وُظّفت أحسن توظيف في الجهات لكانت النتائج والمشهد مختلفا جذريا عمّا هو موجود حاليا.وما اودّ الإشارة إليه أنه في كلّ عملية توحيد هناك «فيتوات» رُفعت في وجهي، هم قرّروا بصفة رسمية ألّا يقبلوا بالحزب الاشتراكي اليساري وهذه عملية إقصاء ممنهجة ويبدو أنها استجابة للشروط التي وضعها الحزب الديمقراطي التقدّمي حتى يكون «التجديد» ضمن الإطار الوسطي الذي يسعى إلى تشكيله، والواضح أنّ الحزب الديمقراطي التقدّمي صار يشيطن اليسار ولا يقبل به إطلاقا. وما هو موقع الوزير الأول السابق الباجي قائد السبسي في كلّ ذلك؟ أرى أنه هو الذي يدفع نحو خلق قطبين حتى يتوحّدا في ما بعد، وما تقوم به حركة التجديد اليوم تجاه الحزب الاشتراكي اليساري هو بإيعاز من السبسي. ما هو تقييمكم للحراك السياسي الجاري حاليا والذي يعيد تشكيل المشهد السياسي وفقا لتحالفات جديدة؟ الحراك السياسي في اتجاه التقارب بين مختلف المكوّنات السياسية وبين العائلات الفكرية يُسهّل القراءة السياسية امام المواطن التونسي ولا يترك الأمور معقّدة بالشكل الذي كانت عليه، ولأن العائلات الفكرية في تونس تقريبا هي 5 عائلات: الإسلامية والقومية واليسارية والدستورية والليبرالية... هذه هي التوجهات الكبرى كعائلات فكرية سياسية لها مكوناتها وتعبيراتها المتعدّدة. اليوم كلّ عائلة تسعى إلى تجميع قواها، وهذا أمر جيّد ومهم جدّا لأنها ستوضّح أكثر المشهد السياسي وستبرز إمكانية التقارب والتحالف بين مختلف هذه المكوّنات... اليسار فقط هو الذي بقي يشكو حالة من التشرذم رغم الجهود في النقاشات. وما هي العوائق التي تمنع اليسار من تشكيل جبهة عمل موحّدة لمواجهة المحطات السياسية القادمة؟ اليسار ليست له تجربة سياسية، السياسة ليست التحريض في الجامعة او في النقابات... السياسة هي إدارة الشأن العام واليسار ليست له خبرة ذات شأن في هذا المجال، لذلك كان اليسار إيديولوجيا واستراتيجيا اكثر ممّا هو يبحث عن السياسة الممكنة والحلول العملية الواقعية الممكنة. الآن وبدخوله الحياة السياسية ومشاركته في الانتخابات تبيّن اليسار هذه الحقيقة، أنّ البقاء في الفضاء المجرّد والنظري سيحكم عليه بالاندثار وهذا ما فرض عليه مراجعة سياساته ومواقفه، وقد تؤدّي هذه التعديلات إلى التقاء بعض المكوّنات الأساسية التي بإمكانها أن تلعب دور القاطرة داخل العائلة اليسارية. كيف تقيّمون عمل الحكومة حتى الساعة وكذلك أداء المعارضة، سواء داخل المجلس التأسيسي أو خارجه؟ أرى أنّ اداء الحكومة دون المؤمّل وهي لا تزال إلى الآن لم تُعدّل على وتر مسؤولياتها الوطنية باعتبارها مسؤولة عن الشعب التونسي برمّته، فهي مطالبة بحل قضاياه المباشرة وألّا تتصرّف كحكومة حزب او ائتلاف حزبي محدّد... والحقيقة أنّها ظلّت سجينة هذه الفكرة وهو ما جعلها تحسب حسابات سياسية أكثر من اللّازم ولم تسع إلى التوجّه ببرنامج واضح لمعالجة الصعوبات المحلية والإقليمية والدولية. الحكومة تصرّف وكأنها فريق حزبي وهذا ما جعل أداءها ضعيفا، ولو أنّها ألغت هذا الغطاء لكان أداؤها أفضل وعندها تكون مفتوحة للطاقات الوطنية.وللأسف ما نراه الآن هو محاكمات للرأي المخالف بصورة ممنهجة وتعامل مع الغير بالعقلية التآمرية، وما دام هناك مسؤول حكومي يتحدّث بهذه الطريقة فهو ليس مسؤولا وطنيا بل هو مسؤول حزبي. أمّا بالنسبة إلى المعارضة فلا ننسى انّنا خرجنا جميعا من نفس المدرسة السياسية التونسية، مدرسة الحزب الواحد والشخص الواحد والرأي الواحد... هذا خلق واقعا يجعل من الصعب أن ينظر كل طرف إلى المصلحة الوطنية وما تحتاجه تونس من توافق وغير ذلك.المعارضة قامت بعض الجهود وحاولت التعديل ولكن في عمق العمل السياسي فإن كل ما قامت به كانت أعمالا محسوبة، هي مخطّطات لإحراج الفريق الحاكم، فالمعارضة لا تزال تدور في الفلك القديم وليست لها مقترحات عملية ملموسة لتغيير الأوضاع... فإذا كانت ترى أنه من غير المجدي العمل داخل المجلس التأسيسي فلتقل ذلك ولتغادر المجلس، أمّا هذه المراوحة فتجعل الشعب يتابع ما يجري دون جدوى، وهذا أمر مرهق وأكثر من ذلك سيؤدّي إلى فقدان الشعب الثقة في السياسة وفي النخب السياسية أيا كانت انتماءاتها، وغدا سيعاقب الجميع بالإحجام عن التصويت في الانتخابات القادمة، وعندها يا خيبة المسعى.