قال الأستاذ أحمد المستيري في لقاء فكري بصفاقس إن ثورة 14 جانفي كانت فجئيّة ومباغتة، وقد نجحت بفضل جرأة الشباب الذين تمكنوا من تحقيقها، في حين فشلت خمس محاولات في عهدي بورقيبة وبن علي. اللقاء الفكري نظمته المندوبية الجهوية للثقافة مساء الجمعة 10 فيفري المنقضي بقاعة الأفراح البلدية حول كتاب الأستاذ أحمد المستيري «شهادة للتاريخ» الصادر عن دار «الجنوب للنشر»، قدمه أستاذ التاريخ المعاصر محمد الجربي، أما النقاش فقد أداره الدكتور مبروك الباهي عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس. الدكتور مبروك الباهي وصف في مداخلته الضيف بالشخصية ذات المكانة المرموقة والفاعلة في تاريخ تونس المعاصر، بل هو «فرد بصيغة جيل» على حد تعبيره، شاكرا ثورة الحرية والكرامة التي منحت حق حرية الكلام لمن مُنع من الكلام، ولمن كان يتكلم باستبداد محتكرا حق الكلام، ولمن كان له حق الكلام وفي منتصف الطريق آثر الصمت وتكلم الآن وهو شأن الأستاذ ورجل الدولة والمعارض السابق أحمد المستيري في كتابه «شهادة للتاريخ». وفي نفس السياق عدّد الدكتور الباهي أهم المحطات المفصلية في تجربة الأستاذ أحمد المستيري السياسية سواء في مرحلة الكفاح الوطني ضد المستعمر الفرنسي، أو في مرحلة الاستقلال وبناء أسس الدولة الحديثة وما تلاها من أحداث وتجاذبات في عهدي حكم بورقيبة وبن علي، على غرار إشرافه على إعداد مجلة الأحوال الشخصية سنة 1956، أو منافسته السياسية لبورقيبة، وتأسيسه لحركة الديمقراطيين الاشتراكيين في جوان 1978، وصولا إلى انسحابه من المشهد السياسي في بداية تسعينات القرن الماضي بعد اعترافه بخسارة رهانه على نظام 7 نوفمبر البائد. شهادات حيّة ومن جهته أكد محمد الجربي أستاذ التاريخ المعاصر بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس أن السيد أحمد المستيري قدّم في مؤلفه شهادات حيّة لثلاث فترات رئيسية الأولى تلك التي عقبت الحرب العالمية الثانية والإعلان عن استقلال تونس، والثانية أثناء فترة بناء الدولة، والثالثة عند اختياره إعلان المعارضة من داخل الحزب الدستوري، مضيفا أن سنة 1959 مثّلت أول المنعرجات في حياة المستيري السياسية، فما إن بدا يشعر ببروز الضغوطات والمناورات في هياكل الدولة والإدارة حتى عبّر صراحة عن رغبته في مغادرة الحكومة والمطالبة بتعيينه في السلك الديبلوماسي، فتم تعيينه سفيرا بموسكو، ثم بالقاهرة والجزائر. كما توقف الأستاذ الجربي في تقديمه عند أهم محاور الكتاب لعل أبرزها مشاركة المستيري في الكفاح المسلح ضد المستعمر الفرنسي من خلال تحمله قسطا من مسؤولية الإشراف على العمل الميداني، ورفضه لإصلاحات المقيم العام دي هوت كلوك، والعلاقة الوطيدة التي جمعته بالزعيم النقابي فرحات حشاد، وعضويته في القيادة السرية المؤقتة للحزب الحر الدستوري ما بين سنتي 1952 و1954، والمطاردات التي تعرض لها من قبل البوليس السياسي الفرنسي، ومساهمته في الجانب التشريعي إبان فترة الاستقلال الداخلي والتام، وانتصاره لبورقيبة أثناء الصراع مع الزعيم صالح بن يوسف، هذا بالإضافة إلى سرده لمختلف المحطات التي مرّ بها المستيري كرجل دولة ساهم في عملية صنع القرار. الأستاذ أحمد المستيري قال في كلمة مقتضبة تاركا ربما للقارئ فرصة اكتشاف تفاصيل تجربته المثقلة بألوان التجارب والرهانات والنجاحات والإخفاقات من خلال صفحات الكتاب إنه ليس مؤرخا، وإنما حاول قدر الإمكان أن يقدم شهادة سياسي عاصر الأحداث وعاشها عن قرب، مبيّنا أنه لم يتجرأ على الدخول في عدة تفاصيل حتى يفسح المجال للمؤرخين والمختصين للتعمق أكثر في هذه المسائل، كما اعترف بارتكابه لبعض الأخطاء نظرا لاعتماده على الذاكرة التي يمكن أن تغيب عنا الدقة عند استرجاعها لأحداث مضى عليها أكثر من نصف قرن. وفي جانب آخر اعتبر المستيري أن ثورة 14 جانفي فاتحة الثورات العربية اندلعت بطريقة فجئية ومباغتة، في حين فشلت خمس محاولات سابقة، ثلاث منها في عهد بورقيبة، واثنتان في عهد بن علي، مشددا على أن الشعب التونسي سيبقى مدينا لشهداء هذه الثورة الذين سقطوا في سيدي بوزيد والقصرين والرديف وقفصة وغيرها من المدن التونسية وخاصة من الشباب الذين تسلّحوا بالجرأة وآمنوا بالتغيير فتمكنوا من تحقيق «المعجزة»، وبفضلهم نتمتع اليوم بالحرية التي خوّلت لنا الحديث بطلاقة ودون خوف وهو مكسب لا رجعة عنه. وفي إجابته عن أسئلة الحضور أكد المستيري أن مسألة التشبع بالهوية العربية الإسلامية ليست مرتبطة بالدستور، وإنما هي مغروسة في وجدان الشعب التونسي لأنها مرتبطة بالواقع وبالتالي فهي حاجة فرضت نفسها، موصيا بضرورة الاتعاظ بأخطاء الماضي حتى نتجنب الوقوع فيها مستقبلا، وحاثّا النخب والمثقفين وخاصة من الجيل الجديد على الخروج من محيطهم الضيق، وعلى النزول من أبراجهم العاجية وتمتين الصلة مع الشعب في تونس الأعماق.. مرددا «إن ثورة 14 جانفي ليست ثورتنا.. نحن ننتمي إلى أجيال الماضي...»