فجأة وفي ظرف لا يتجاوز السنة إلاّ بقليل انتقلنا من زمن الواحد الأوحد إلى زمن المتعدّد اللانهائيّ. وهي نقلةٌ محلومٌ بها باعتبارها شرطًا من شروط الحريّة والديمقراطيّة لولا أنّنا لم نَرَ منها حتى الآن إلاّ القليل المضيء.
أغلب ما رأيناه حتى الآن هو الخروج من عتمةٍ إلى أُخرى، أي من حالة «الائتلاف المُصْطَنَع» إلى حالة «الاختلاف المُمَنْهَج»، من طقس تقديس الرمز الواحد إلى فوضى رمزيّةٍ يتجاذبها دُعاةُ تدنيس الرموز من جهة وضحايا فُوبْيَا الرموز من الجهة الأخرى.
كان الائتلاف المُصْطَنع جزءًا من أكسسوارات النظام السابق كي يحكم مدى الأبد فهل يُصبح الاختلاف المُمَنْهَج جزءًا من أكسسوارات النظام اللاحق كي يتأبّد؟ ذاك ما ينذر به «تصامُم» السلطة الراهنة عن «الغزوات» التي ما انفكّت تُشَنُّ على الجبهة الرمزيّة بدايةً من فضاءات التعبير والإبداع مرورًا بالتعليم والإعلام وصولاً إلى العلَم الوطَنيّ.
إنّ إنزال عَلَمٍ لإحلال آخر محلَّهُ ليس سوى المعادل الرمزيّ للرغبة في الإطاحة بمن يمثّلهم ذلك العَلَم وفي إقصائهم وإزاحتهم عن مواقعهم وتجريدهم من حقّهم في الوجود للانتصاب مكانَهم بالعنف. إنّها رغبة تتُوق إلى التحقّق في الواقع وتعوّض عن ذلك أو تمهّد لذلك عن طريق التحقّق في الرمز.
لم تمرّ صورة المُواجَهة بين الطالبة المنتصرة لعلم «الوطن» والشابّ المنتصر لِعَلَم «حِزْبٍ» مرورَ الكرام، لأنّها لم تكن مجرّد صورة عابرة. بل كانت دلالة رمزيّة على لحظة المواجهة بين يدٍ تهاجم الوطن وأخرى تُدافع عنه.
تجلّت الصورةُ بليغةً في مَشْهَدَتِها للتناقض بين عينين: عين تنظر إلى الخلف وأخرى تنظر إلى الأمام، وجاءت كشفًا لصراعٍ طال التواطؤ على إنكاره بين مشروعين وبين رؤيتين للحياة وللمجتمع. إنّها عودةٌ إلى مربّعٍ كان يُفتَرَضُ تجاوُزُه منذ خمسين سنة. مربّع المواجهة بين شعبين داخل البلاد نفسها، ومربّع المواجهة بين الرجل والمرأة داخل الشعب نفسه.
تلك هي حرب الرموز في وجهٍ من وجوهها. ومن ثمّ خطورتها ومن ثمّ خطورة التهوين من شأنها. إذ كيف يمكن لاختلافنا وتعدّدنا أن يتناغمَا مع متطلّبات «العيش المُشترَك» وأن يمنحانا الاطمئنان الكافي على قِيَم الجمهوريّة وشروط الديمقراطيّة ومكتسبات المرأة وحقوق الإنسان، إذا كنّا نختلف حتى على الراية الوطنيّة؟!ليس من شأن مثل هذه الحرب إلاّ أن تكون وبالاً على الجميع، وتحديدًا على الذين يديرونها مثلما يُدير السحرة ألعابهم، بينما هم في النهاية يلعبون بمصير البلاد ويُضحّون بمستقبلهم السياسيّ لأنّ السحر سرعان ما ينقلب على الساحر.
أعود هنا إلى تلك الحكاية القديمة التي تقول إنّ امرأتين خرجتا إلى الغابة ومعهما رضيعان فاختطف الذئب أحدهما، فادّعت كلّ منهما أنّ الرضيع الناجي لها واختصمتا إلى النبيّ سليمان. قال جيئوني بسكّين أشقّ بها الرضيع نصفين ولتحملْ كلٌّ منكما نصفًا. قالت إحداهما لا تفعل وحظّي منه لها. قال سليمان: هو ابنك، وقضى به لها.
استحضرتُ هذه الحكاية في نصٍّ سابق في سياق الصراع بين الأشقّاء العرب وها أنّي لا أجد بدًّا من استحضارها في سياقنا التونسيّ الراهن. حيث تبدو لي بلادنا شبيهة برضيع الحكاية وحوله خصمان أو جيشان أو جهتان وكلٌّ يجذبه إليه حدَّ التمزيق وقد اختلطت الأمور حتّى تعذّر على الكثيرين أن يعرفوا مَنْ هي «الأُمّ الكاذبة» ومن هي «الأُمّ الصادقة»؟
وأعاود السؤال: هل نحن حقًّا أمام «أُمَّيْنِ» لرضيع واحد أم أنّ الرغبة في السلطة تقتل القلوب والعقول إلى هذا الحدّ؟ ولماذا يُرادُ دائمًا من الأمّ الحقيقيّة أن «تتنازل عن حقّها» رأفةً برضيعها (أو شعبها) في حين تمضي الأخرى بماكيافيليّتها إلى النهاية؟ ولماذا لا يفهم البعض أنّ تونس لم تعد «رضيعًا» بل هي «أُمّ الكلّ» ويتّسع صدرُها للكلّ وأنّها تطلب المستقبل ولم توكّل عنها أحدًا كي يعود بها إلى القرون الخوالي؟
إنّ من شروط العيش معًا أن نتّفق على أدنًى مُشترك لا يصحّ أن يكون موضوع خلاف. والخوف كلّ الخوف أن نحتاج إلى أمر من اثنين للخروج من هذه المحنة: أن نمشي على الجمر حتى يظهر جيل جديد من السياسيّين لا يعيد إنتاج ثقافة الماضي. أو أن ينتبه الشعب (أي الجسد الذي كان في الحكاية صامتًا) إلى أنّ ثورته لم تكتمل بعد كي يستأنفها، وعليه أن ينطق عن نفسه، وإلاّ فإنّ عليه أن يرفع اللافتة الوحيدة التي هو بها جدير: «كما تكونون يُوَلَّى عليكم».