كانت لديّ قناعة لطالما دافعت عنها مفادها أن الواقع إذا ترسّخ مؤسّسيا يصعب اقتلاعه. هكذا تبدو "إسرائيل" بمؤسساتها العسكرية ورؤوسها النووية وأنسجتها الاقتصادية والاجتماعية. ومن هذه القناعة الموضوعية كنت أرى في المقاومة الفلسطينية بمختلف اتجاهاتها ضربا من الدونكيشوتية الساذجة التي تتحطّم أحلامها في تقويض دولة إسرائيل على صخور القوّة والعقل بعد ستين سنة من الترسّخ. أما اليوم وبعد الصمود "السيزيفي" للمقاومة فقد انكشفت هشاشة هذا الكيان وفكّ السحر عنه وبات من الممكن فعلا دحر هذا الواقع الهشّ وتفكيكه، ما دام يفتقد إلى العمق، أي إلى رمزيات الارتباط بالأرض وبالتاريخ. لقد تمكّنت فلسفة المقاومة الفلسطينية التي لا تعرف اليأس ولا تعترف بالإنهاك من صياغة ملحمة طفل يعد برفع الصخرة الهائلة إلى قمّة الجبل العالي وسيتصبّب الدم من جسمه، سينزف كثيرا، ولكنه سيمضي بالصخرة، بل سيرميها نحو قمّة الجبل ولو بعد حين، سيبلغ هدفه رميا، خلافا لسيزيف الذي حكم عليه زيوس بأن يرفع صخرة هائلة إلى قمّة جبل عال شديد الانحدار، وسيستجمع ما فيه من قوّة ليرفعها، يمضي بالصخرة نحو القمّة .وما إن يكاد يصل هدفه ليضع حدّا لآلامه حتى تنقلب الصخرة وتتدحرج نحو الأسفل. ومن جديد يعود سيزيف ليرفع الصخرة ولكن دون طائل، فلن يبلغ هدفه أبدا. أما حكمة الطفل الفلسطيني فقد حلّت معظلة إنسانية أسطورية وحققت ما لم يحققه سيزيف، ابن الإلاه أبول محرّك الرياح برمي الحجارة بدل الدحرجة : "و ما رميت إذ رميت ولكن اللّه رمى" وسيدرك هذا الطفل المعجزة نهاية لعذاب شعبه بهذا العزم وبهذه الإرادة الأسطورية. إن ما يفعله هذا الطفل الفلسطيني الهادر رغم نزيفه يرعب إسرائيل ويثير في قلبها خوفا أبديا لا ينتهي إلا بزوالها، ويثير فيها رعبا وجزعا فوق أرض تهدّدها كل آنية بأن تنقض على كائناتها اللاتاريخية، فتطبق على أفرادها الحائرين وتردّهم إلى أحشاء وحشة أبدية. إن هذه حكمة خلدونية "الظلم مؤذن بخراب العمران"، فعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون الإسراع نحو النهاية، فلا سبيل للعمران إلا بالعدل. إن هذه السادية الإسرائيلية التي تنقلها صور الموت كل يوم، وهذه الرغبة المفرطة الجامحة اللامعيارية في التلذذ بنزيف الدم الفلسطيني، إنما مردّها ضعف قناعة بمبرّرات الوجود الإسرائيلي على فلسطين، الخوف من طفل مارد لم يتعدّ في عمره الأشهر والأيام ومع ذلك يقرأ له ألف حساب، لأنه ابن لهذه الأرض المقدّسة وابن لهذا التاريخ الممتدّ الذي رسم على الجدران والأشجار والزهور والأحجار والأشياء وعلى تجاعيد الشيخ الفلسطيني علامات الديمومة الفلسطينية. هذه أرضنا وعرضنا وتاريخنا وحاضرنا وقادمنا، فلن نلين ولن نيأس. ولو ظلّ آخر شبل فينا لفعل ما تفعله الآلهة، لأرسل الصواعق، كما فعل زيوس ولبحث عن زهرة الحياة الأبدية كما فعل "قلقامش". هكذا يصرخ دم الرضيع الفلسطيني، دم ما يزال في بواكر طفولته: قتّلي ما شئت يا إسرائيل ولا تكبحي جماح ساديتك، فلن تزيدينا إلا إصرارا ويقينا بالنصر، نراه في كل مشرق شمس متفائلة، ونراه في هيبة الغروب المتسارعة. فالوطن فينا ومنا، وفي تفاصيل مشهده الطبيعي، نراه في قطر الندى المترنّح فوق ورق الأقحوان، فيزداد لمعانا ليفتح لدينا شهية المعنى، معنى الحياة التي لم يبق لكم منها إلا ضباب المعنى تختفون مذعورين وراءه، وراء تسكعات الموساد وتنصّته خلف الجدران وآلة عسكرية خرساء، وجلة، متبلّدة بغياب الروح فيها وغياب المعنى. أقتلوا بلا هوادة، فالموت يزيدنا إصرارا وتشبّثا بالحياة. وأقتلوا الرموز فكلما قتلتم رمزا انسابت روحه الزكية في كل واحد منّا. ليتوالد كوكبة من الرموز المقاومة لكل المحن المخفّفة لوطأة الأرزاء والمصائب. سيوقظ فينا الموت الآتي من طيّات نسيم أرواح الرموز رغبة جامحة في الانتفاض من قيود الاستعمار ورائحة أنفاسه الخبيثة. تلك معجزة الطفل الفلسطيني الذي يبدو وكأنه يصنع الحياة من الموت "فيخرج الحيّ من الميّت". كيف لا يدرك "المثقف الإسرائيلي" هذه الأبعاد، كيف لا يدرك أن الظلم المطلق من قبيل التشفي في موت الرضيع ومحاربة الأطفال وتقتيل النساء الحوامل والتلذّذ بردّ الشيوخ العجّز أشلاء بالصواريخ، هذا الظلم لا يبني أفقا لحياة ممكنة ؟ إنما يكسّر الدولة ويكسر قيود المظلوم، فتنساب أحلامه مع وقع حبّات المطر ويبني "من الجزمة أفقا" على رأي محمود درويش. إنّ "عدّو السامية" وصانع "الهلكوست" ليس طفلا فلسطينيا وليس بكل الأحوال رضيعا فلسطينيا، وليس ياسر عرفات الذي جرّعتموه سمّا أسود غادر رغم إمضائه لبروتوكول السلام. إنما عدّو السامية من يتلذّذ بصراخ الثكالى والمساكين ويختبىء وراء "الجدار" المنيع، من زاد من ضراوة حقده إحساسه بمصيره المحتوم وأحسّ بدنوّ النهاية، فتشبّث بالموت الغادر عقيدة وفلسفة. المعادي للسامية من يرى في دماء الأطفال الفلسطينيين دماء عكرة ينبغي أن تسيل وتخرج من أجسادها. أنتم أيها المثقفون الإسرائيليون المعادون لأنفسكم حينما لا ترفعون صرخة حق لتكفّروا عن خطايا حكوماتكم المتعاقبة ضد السامية عينها. هلاّ سألتم أنفسكم أماتت القضية الفلسطينية بموت عرفات أو الشيخ ياسين؟ أماتت الانتفاضة بموت أبو جهاد في تونس؟ هل أطحتم بلبنان في حرب تموز ومقتل "عماد مغنية"؟ لا شيء من ذلك، بل جعلتموه بغدركم قديسا، وثقوا أن في ما وراء البحار شعب إسمه تونس، يقيم كل فرد فيه مجالس عزاء ولو بينه وبين نفسه مع كل قطرة دم نازفة من جرح فلسطيني مسجّى. فلسطينيون كانوا بيننا تقاسمنا معهم رغيف الخبز، بل تقاسمنا "الخبز والدّم" في أرض تونس وغادرونا "و تركوا فينا خير ما فيهم". فصبرا يا طفل فلسطين. (*) رئيس الجمعية التونسية لعلم الاجتماع