اختلفت تجارب المثقّفين والكتّاب العرب فتنوّعت مؤلّفاتهم وسيرهم الذّاتية. فمنهم من كتب سيرته في جزء واحد، ومنهم من جمعها في جزأين ومنهم من جعلها في ثلاثة أجزاء بحسب غنى التّجربة
التي خاضها كلّ واحد من هؤلاء كاتبا روائيا مثل سهيل إدريس في «ذكريات الأدب والحبّ» أو ناقدا أدبيا مثل إحسان عبّاس في «غربة الرّاعي» أو شاعرا مناضلا مثل فدوى طوقان في «الرّحلة الأصعب» أو كاتبا مفكّرا مثل الدّكتورة نوال السّعداوي في «أوراقي.. حياتي»..
والروائي والنّاقد الدكتور محمد الباردي كان قد أصدر منذ أكثر من سنتين سيرته الذّاتية الأولى، وقد وسمها بعنوان»حنّة». وكان قد أثار هذا الجزء في حينه عددا من ردود الأفعال النقدية تمثّلت في عدد لا بأس به من المقالات الصحفيّة والأكاديميّة على حدّ سواء، إذ لم يكن يخلو هذا الجزء من الطّرافة والمتعة والدّسامة الفكريّة. وكان قد تناول فيه ردحا من حياته في مرحلة الصّبا ومطلع الشّباب الباكر، بكلّ ما تحمله تلك الحقبة من براءة وجمال أخّاذ واندفاع نحو المستقبل. ولم ينتظر الزمن كثيرا ليخرج علينا بالجزء الثّاني الّذي وسمه بعنوان «تقرير إلى عزيز، أو سيرة مدينة» وكالعادة فإنّه لم يغفل عن أن يقيّد العنوان بالجملة التالية «سيرة ذاتيّة روائيّة» كما فعل في غلاف جزئه الأوّل.
وكان قد قسّم الكتاب إلى عشرين فصلا اختلفت في أطوالها، أقصرها الفصل العاشر الّذي تضمّن ستّ صفحات فقط. وإن كادت الفصول تتساوى بصفة عامّة حيث تراوح أغلبها ما بين عشرين واثنتي عشرة صفحة بما معدّله على وجه العموم ست عشرة إلى سبع عشرة صفحة، ممّا يشير إلى العمل الإبداعيّ المنظّم والواعي، إذ لا ننسى أنّ الباردي روائيّ ولكنّه أكاديميّ أيضا يخطّط لكلّ ما يكتب ويهندس كلّ عمل من أعماله. والأثر يندرج ضمن ما أطلق عليه هو نفسه صفة السّيرة الذّاتية الرّوائيّة. وكان قبل هذا قد استشهد في الجزء الأول من سيرته «حنّة» بقولة للكاتب المغربي محمّد شكري بأنّه من أكبر الكذّابين، بما يوحي بأنّ السّيرة ما هي إلاّ مزيج بين الذّاكرة والمخيال، وبما يؤكّد مقولة الكاتب نفسه في مؤلّفه النّقدي «عندما تتكلّم الذّات» ص9 استنادا إلى جيرار جينات في أنّه «يصعب التمييز العلميّ المقنع والنّهائي بين السّيرة الذّاتية والمذكّرات وبينها وبين السّيرة والرّواية الشّخصيّة وقصيدة السّيرة الذّاتية واليوميّات الخاصّة والرّسم الذّاتي أو المقالة فضلا عن علاقة السّيرة الذّاتية بالرواية».
وكان قد وجّه خطابه إلى «عزيز» في قوله عند مفتتح الفصل الأول بعبارة «يا ولدي» و «وحدها الكتابة يا ولدي تخفّف ظهري» ص5. أمّا في مفتتح الفصل الثّاني فإنّه خاطبه بهذه الجملة قائلا: «قُلْ كَانَ جدّي صادقا فيما قال أوْ كَانَ واهما يَلعبُ الخيال بعقله وقلبه» ص25.. وبالاطّلاع على بقيّة الفصول يتأكّد لنا أنّ المُخاطبَ الّذي كان يتصدّر جميع الفصول وأحيانا ثناياها وخواتيمها ما هو إلاّ حفيد الكاتب، الكاتب الّذي فيما يبدو شعر بأنّه على أبواب مرحلة لا بدّ أن يطرح فيها الأقنعة ويواجه الذّات بأخطائها في حالة اعتراف أقرب ما تكون إلى الاعتراف المسيحيّ. «وَحْدَها الكتابةُ يا ولدي تخفّف ظهري وتطهّر نفسي .. في هذه المرحلة من عمري. كتابتي شهادتي على ذاتي وعلى عصري.» ص 5.