سمع أحد السّلفيّين بائع خمور في حيّ شعبيّ يخاصم رفيقا له ويسبّ الجلالة مطلقا فاحش القول وسفيه الكلام، وكان من الممكن أن يفعل هذا جزّار أو بائع دجاج، المهمّ أنّ السّلفيّ انزعج فخرج من المسجد وعنّف البائع باللّسان، وربّما باليدين، فردّ عليه هذا بضربة ساطور على الرأس. يالها من نهاية باهرة لحوار هادىء مثمر، كان في أساسه يبغي الإصلاح . وقبله جرى حوار مماثل في جامع المهديّة انتهى بطعنات سكّين. هل من تفسير لذلك غير الجهل وعمى التّعصّب وجنون التّطرّف ؟ في آخر الأخبار أنّ أهل المنستير طردوا واليهم الجديد لانتمائه لحزب النّهضة الذي نعت أحد مسؤوليه أهل المدينة على العموم بأنهم كلاب البورقيبية، وهذه شتيمة مجّانية ظالمة، وحكم خاطىء معمّم، فلا أتباع بورقيبة كلاب،ولا وجودهم مخصّص بالمنستير فقط. هكذا ترون أنّ بداية الانزلاق انطلقت... وأنّنا استسهلنا المجاهرة بالتّباغض والتنابز، وإخراج حقد القلب لينطق به اللّسان وتتماسك الأيدي، وقريبا جدّا تستلّ السّكاكين أوينطلق الرّصاص، والدّليل أمامكم: جماعة تنادي بقتل اليهود جناة وأبرياء، ورجل يحثّ على قتل الأستاذ الباجي رئيس الوزراء السّابق لأنّه يكره قوله وفعله، ومع ذلك (انتبهوا جيّدا) فإنّ المحرّض المحتقن غيظا هو مدرّب وعّاظ وأئمّة، موظّف بوزارة الشؤون الدّينيّة، يحفظ القرآن ويعرف أنّ أهمّ جزء في رسالة نبيّه هي إتمام مكارم الأخلاق. ولسنا هنا أمام جهل وإنما في دوّامة تعصّب أعمى وتطرّف مجنون.
2
كتبت هنا منذ عام أنّ الانتمائيّة المغالية والمواقف المتطرّفة، واعتماد المبالغة في القول، والمجازفة بالأحكام دون التثبّت في صحّتها، لا تقود جميعها لغير تطرّف مماثل له،فيه مبالغة ومغالاة ومجازفة أشدّ منه، وضربت مثلا على ذلك بسياسة بن علي التي اعتمدت على التصلّب وتقييد الحريّات وتزييف الانتخابات، والتي ما كان ليقدر على تنفيذها لولا تعصّب الفئات الرّجعيّة وتهديدها الفعلي لمكاسب تونس الحديثة، وقيام الاتّجاه الإسلامي أيّامئذ بأفعال عنفيّة فيها تحرّش بالدّولة وتجاوز للقانون. إنّ التطرّف ينتج التطرّف، يدعو إليه ويحثّ عليه... هكذا كتبت يومئذ عندما كان النّاس يستعدّون للانتخابات ولم تخرج معاركهم بعد عن الملاسنات والسّباب الخفيف. لكنني كنت أعلم كم هي سريعة انزلاقات التعصّب وكيف تذهب بك سريعا نحو التطرّف فالعنف . وما التّعصّب في حقيقته إلاّ وعي حادّ بما يعتقد الإنسان أنه الحقّ الذي لا حقّ قبله أو بعده، فيقف عنده، ويجمد عليه، ويتحجّر،ويمتنع عن المجادلة فيه. مع أنّ النّاس قد عرفوا أنّ من يقف عند رأي واحد لا يقبل فيه مناقشة أو جدالا هو امرؤ يلغي وجود الآخر ولا يعترف به . وإذا ألحّ هذا الآخر في طلب النّقاش قبل أداء كلّ عمل يطلب منه، سواء من مشاركيه في الوطن، أو من الدّولة التي تدير الوطن، جوبه بالعنف الذي يستأصل (وافهموا الكلمة كما تريدون) حضور المختلف معنويّا كأن يهينه، ومادّيّا كأن يضربه أو يقتله.
3
وقد خصّص المفكّر المصريّ جابر عصفوركتابا للحديث عن التّعصّب حلّل فيه أسبابه وعلاقاته بالأصوليّة، وبأنّهما ليسا سوى وجهين لعملة واحدة، لا ينتج عنها غير قمع لا يعرف معنى التّسامح في أيّ اتّجاه، وإلى عنف قابل للانتشار في كلّ مجال، بوسائط معنويّة ومادّيّة تبدأ باللّغة ولا تنتهي بالخنجر أو البندقيّة أو القنبلة. يذهب الدّكتور عصفور في تحليل المسلسل الجهنّمي للأصوليّة/ التّعصّب/ التّطرّف/العنف مبيّنا أهدافه كما يلي: «أوّل الأهداف من وراء ذلك تحويل الضّحايا من الأفراد والجماعات إلى عبرة لغيرهم، وخلخلة تماسك المجتمع المدنيّ، وإسقاط الهيبة عن الدّولة المدنيّة، أو التي تدّعي أنّها مدنيّة. والهدف الأبعد هو إزاحة العقبات من الطّريق لتأسيس نموذج «دولة دينيّة» لا يمكن أن تقوم إلاّ على التّعصّب للتّأويل الدّينيّ (البشري) الذي تستند إليه، ومن ثمّ قمع المعارضين له وتصفيتهم بما يذيقهم عذاب الدّنيا والآخرة». د.جابر عصفور، ضدّ التّعصّب، المركز الثقافي العربي، بيروت الدّار البيضاء،، ص. 31.