1 إلى وقت قريب أي قبل أن يحمل عليهم الشّاه رضا فهلوي حملته الشهيرة كان فقهاء الشيعة هم نوّاب الإمام المختفي، باسمه يصدرون الأحكام التشريعية، ويراقبون صاحب السّلطة الزّمنيّة . لذا كانت منزلة هؤلاء الرّجال في إيران الشيعي غير منزلتهم في بلاد الإسلام الأخرى. ولقد رأيت بعيني قبل قيام الثورة الإسلامية مدير إذاعة طهران يوصل «مولاّ» إلى الباب الخارجي ويقبّل يده، وكان أمرا غريبا في عهد يشهد ضياع مجد «الملالي» على يدي الشاه محمد، وفي أيّام والده رضا بالخصوص، الذي كلما عصوا أمره ضربهم بالفلقة والعصا في الساحات العامّة. لذا بقيت جمرة الحقد على الأسرة البهلويّة في نفوس أولئك الرّجال تحت الرّماد، إلى أن نفخ فيها الخميني بخطبه الملتهبة، فاستيقظ إحساسهم الإيماني، وعاد يربط خيوطه من جديد مع العواطف المتجذّرة في الرّوح الشعبية الإيرانية، ويبسط عليها سلطانه من جديد. ولم يكن شوق الأتراك إلى جذورهم المتديّنة بأقلّ حدّة من الإيرانيّين. وفي اعتقادي أنّ التطرّف الذي اكتست به علمانيّة أتاتورك وخلفائه، وإسرافها في التقرّب إلى أوروبا هو الذي جعل شعب تركيا يبحث عن مكوّنات شخصيّته الأصليّة، ويحاول العودة إليها، بنفس الحماس الذي اتّصفت به حملات التّغريب، والقطع مع الموروث الإسلامي التي مارسها عليه مصطفى كمال. فكان من ثمّ انبعاث حزب الرّفاه بقيادة أربكان، وتحدّيه لسلطة الجيش الماسك لكلّ السّلط، ثم مجيء خليفته أردوغان وحزب العدالة والتنمية الذي قطع أشواطا أبعد في العودة نحو الجذور. 2 إن عدنا إلى تونس سنجد بورقيبة قد دفعها في عملية تحديث متسارعة ، لم يكن الشّعب قد تهيّأ لها بالقدر الكافي ،لكونه ظلّ ثلاثة أرباع قرن خاضعا لاستعمار تفقيري تجهيليّ، لذا صعب عليه التخلّي عن تّقاليده، حتى وإن تجاوزها العصر، وصدمت جرأة إصلاحات بورقيبة فئة العلماء التقليديين، وطبقة شعبية غير متعلّمة، لم تهضم المستجدّات المتتالية، فحدثت هزّات شعبيّة خفيفة أوّل الأمر ، مثل مظاهرة «الله أكبر ما يمشيش» في القيروان، ومثل إمامة الشيخ محمد الصالح النّيفر لصلاة العيد بباردو في يوم الشكّ، نكالا في الحكومة التي أبطلت اكتشاف هلال العيد بالرّؤية، ومثل إجبار المقاهي على الإغلاق في رمضان. وشيئا فشيئا نشأت ظاهرة تديّن عنيدة ومغامرة، تدثّرت بأغطية متنوّعة، وانتهت بالتشكّل في حركة الاتّجاه الإسلامي. في اعتقادي أن مثل هذه المبالغات في القول، ومثل هذا التطرّف في السلوك، هو ما دفع بن علي إلى سياسة التصلّب وتقييد الحريّات، فزيّف الانتخابات مدّعيا الخوف من انقضاض الفئات الرّجعيّة على مكاسب تونس الحديثة، ودليله على ذلك ما أظهره الإسلاميّون من تعصّب وتطرّف، ومن استعمال للعنف وتجاوز القانون. 3 وأطرح في نهاية حديثي لمزيد من التّأمّل مقولة للباحث المصري جابر عصفور وردت في كتابه: ضدّ التّعصّب (المركز الثقافي العربي، بيروت الدّار البيضاء، 2001): «يمكن تعريف التعصّب بأنّه الوعي الذي يصل في حدّيّته إلى الطّرف الذي لا يرى فيه سوى ما جمد عليه، ولا يجاوزه إلى غيره، ولا يقبل فيه مناقشة، وذلك على نحو يفضي إلى إلغاء وجود الآخر، بواسطة فعل من أفعال العنف الذي يستأصل حضور المختلف معنويّا أو مادّيّا. (...) فالتّعصّب أصوليّة، والأصوليّة تعصّب (قد) ينقلب إلى قمع لا يعرف معنى التّسامح في أيّ اتّجاه، وإلى عنف قابل للانتشار في كلّ مجال، بوسائط معنويّة ومادّيّة، تبدأ باللّغة، ولا تنتهي بالخنجر أو البندقيّة أو القنبلة».