تجول الوزير الأسبق والخبير في مجال المال والجباية السيد منصور معلّى بين ثنايا الوثيقة التي تقدمت بها «الترويكا» الحاكمة للمجلس الوطني التأسيسي. فكات مداخلاته عبارة عن إضاءات لمختلف مفاصل برنامج الحكومة. البرنامج الاقتصادي «للترويكا» كان خاضعا ل«مشرط» الخبير ورجل المالية إبّان الأزمات، لمدة ساعة من الزمن... زادته أسئلة واستفسارات الحاضرين في منتدى «بشرى الخير» الأسبوعي تعمّقا وكشفا لمحتواه. يقول «سي منصور» معلّى، إنّ البرنامج الاقتصادي الذي قدمته «الترويكا» هو عبارة عن وثيقة شاملة تتراوح مدتها الزمنية المعنية بين 2012 و2016، نعتها بأنها «ما يشبه المشروع». الوثيقة التي تناولها وزير المالية الأسبق نالت نصيبا أوليّا من النقد على اعتبار أن الوثيقة تتحدث عن قضايا استراتيجية، في حين أنّ الحكومة الحالية كان عليها أن تختصر مهامها في كل ماهو وقتي ومؤقت. وتحدث معلّى عن معضلة التشغيل الذي يقول إنّ الوثيقة (موضوع المحاضرة) تناولته بطريقة شاملة، بلا أرقام ولا مؤشرات حيث كانت خالية من لوحة تحدّد المسار إلى أين وكيفية بلوغ الأهداف في هذا المجال وهنا شدّد على أن لا سياسة تشغيل ناجحة بدون ربطها باصلاح تربوي، لأن أيّ حديث عن التشغيل إنّما هو تعامل مع آفاق البلاد، التي لا بدّ وأن تزاوج بين خلق مواطن الشغل والاستثمار وبين التعليم والتربية والتشغيل، وبين كل هذه المؤشرات والتنمية الاقتصادية. وتوغل «سي منصور» معلّى في تحليل النص الوثيقة، الذي كان مكتوبا بالعربية، في ما جاء تعليقه وتحليله بالفرنسية، واستنتج المحاضر أن أسئلة حيرة عديدة يتطلبها هذا البرنامج الذي طرحته «الترويكا» عبر الوثيقة التي كانت بين يديه، منها مسألة الجباية والتوريد والتصدير وميزان الدفوعات والاقتراض الداخلي... حيث يقول إنّ الوثيقة تتحدث عن هذه المسائل دون أن توضحها. المحاضرة اتخذت شكل تشخيص لحالة أكثر منه تحليل الوثيقة، ذلك أن الوزير الأسبق انتهج مسار تقديم عناصر الوثيقة، وتحليلها وتقديم الحلّ أو المطلوب من وجهة نظره، فقرة فقرة واختصاصا باختصاص... السيد منصور معلّى تحدث عن التنمية في الجهات واقترح طريقة لافتة في التعامل مع هذه المعضلة الأزلية ونعني التنمية في الجهات والتفاوت في نسب النمو واختلاف الاستثمار من جهة الى أخرى، حيث يرى الرجل أنه حان الوقت لتغيير الحاكمية في المركز نحو حوكمة الجهات، بحيث اقترح أن يُعيّن وزراء في الحكومة يقيمون في الجهات وأن تتحول وزارة الداخلية التي اقتصر دورها على الجانب الأمني الأمني الى الآن الى كتابة دولة للأمن الوطني، لأن الوزير اليوم نجده يهتم بالأمن وليس بقضايا التنمية في الجهات، بالرغم من أنها من اختصاصه. وبخصوص التنمية الجهوية يضيف «سي منصور» معلّى بالقول: بات من الضروري اعطاء حوافز وإمكانيات أكثر للجهات، وهو ما أطلق عليه: الحوكمة الرشيدة في الجهات. من جهة أخرى اعتبر معلّى، أن تونس اليوم تحتاج الى سنتين أو ثلاث قادمة، تعيش فيها على وقع الوضع الانتقالي، وتساءل هنا: كيف لوزير أن يعمل بلا آفاق؟ ومن هنا جاء مقترحه الثاني بأن تعيش تونس ثلاث أو أربع سنوات قادمة بلا هاجس الانتخابات، لأن الجميع الآن مسكون بالانتخابات والانتخابات تعني احتجاجات وتنافس بين الأحزاب، متسائلا كيف سيعمل الناس (أي يكونون في مواقع شغلهم بلا اضرابات أو احتجاجات)، إذا كان زعماؤهم السياسيون يتخاصمون ويتراكضون وفق هاجس الانتخابات والفوز فيها. وأضاف إنّه: عندما نصل الى مستوى الحوار والتحاور بلا تكفير ولا تخوين، وتصل الحكومة الى احترام الشعب والشعب يصل الى مستوى احترام الحكومة، عندها سنتمكن من بلوغ الأهداف، ونكون قد حدّدنا الآفاق... فحكومة ضعيفة ومتسامحة ومهووسة بالصندوق القادم، لا تستطيع أن تؤمّن المسار. وعبر معلّى عن اعتقاده بأن تونس اليوم تشبه الطائرة بلا طيّار، مشيرا الى أنه مهما كان الاختلاف السياسي أو الاقتصادي فإن معركة التشغيل في تونس اليوم هي أم المعارك... حيث ساند قائلها السيد صلاح الدين بن مبارك الوزير الأسبق. السيد منصور معلّى تماهى مع بعض الأسئلة والاستفسارات، التي بدت نابعة إما من تجارب سابقة لوزراء متدخلين وحاضرين في هذه الندوة أو من تجارب دول مجاورة وبعيدة عنها، يمكن أن تكون عرفت ما تمرّ به تونس اليوم: الانتقال الديمقراطي. وبخصوص الجباية اعتبر معلّى أنه من الضروري التفكير في تخفيف الجباية ف«التونسي والجباية أعداء»... منتقدا المنوال الحالي للجباية التي تخضع إليها الشركات، ونقصد عملية دفع الشركات للجباية قبل أن تؤمّن الربح، في شكل تسبقة Avance... داعيا إلى توخي سياسة أخرى، وهي أن تنتظر الدولة أن تحقق الشركة المعنية أرباحا، وبعدها يأتي دور تطبيق عملية الجباية. عبر الأرقام وعبر المسار السياسي والعلمي، تناول السيد منصور معلّى مشرطه وبدأ في عملية تشريح للوضع الاقتصادي والتنموي والتربوي والسياسي، مستعملا التاريخ والجغرافيا والاقتصاد والمالية وعلم المستقبل، في معالجته لوثيقة الحكومة، حول البرنامج الاقتصادي. وكشف النقاب عن هنّات تشوب التعليم العالي والجامعة التونسية مؤكدا أنها هنّات مجرورة منذ التعليم الابتدائي، معلّلا تأخر رتبة الجامعات التونسية الى ما فوق الستة آلاف، حيث جاءت جامعات من موريتانيا والمغرب والأردن والجزائر أفضل ترتيبا من جامعاتنا، بأن الجامعة في تونس لا تختار طلبتها والطلبة لا يختارون جامعتهم، داعيا إلى إعادة نظر جذرية وعميقة للجامعة وللتعليم، لأن في ذلك فرصة لمداواة معضلة التشغيل... هكذا كان فضاء نادي «بشرى الخير» مساء الجمعة المنقضي الذي يرأسه ويديره الدكتور علي بوزيان.