في ظل واقع سياسي مضطرب وغير مستقر ، تتجّه فيه أحزاب الترويكا إلى الانفراد والهيمنة على الحياة السياسيّة، ومع اقتراب مواعيد انتخابيّة ربيع العام القادم، تُعاد أسئلة الحيرة من جديد حول واقع المعارضة التونسيّة: إلى أين تسير؟ برغم دروس انتخابات 23 أكتوبر 2011 وبرغم ما صرّحت به حينها العديد من قيادات المعارضة من ضرورة إجراء نقد ذاتي صريح يقبل الأمر الواقع ويعمل على إحداث التغييرات والتحوّلات اللازمة ، برغم ذلك وبرغم مرور أكثر من 6 أشهر لم تسلم «المعارضة التونسيّة» من عدّة أوباء وهنات ونقائص ولازمت في جلّها حالة من التفكّك والتشظّي وانعدام الفاعليّة المطلوبة لضمان التأهيل اللازم لخوض الرهانات المقبلة وهي عديدة.
لم تتمكّن «المعارضة» التي جرحتها «نتائج الانتخابات» من لملمة صفوفها بالقدر المطلوب، كما لم تتمكّن أيضا من توحيد جهودها – هيكلة وتصوّرات- بالقدر اللازم لإحداث الرجّة المرجوّة للتأسيس لتوازن مّا في الساحة السياسيّة والوقوف «الندّ للند» في وجه ترويكا الحكم والسلطة الجديدة، فحتّى المسارات التوحيديّة التي تمّت إلى حدّ الآن لم تتشكّل بالقوّة المأمولة والوضوح المنتظر كما أنّها ما تزال حبيسة «نخب العاصمة وسياسييها» وما يدور بينهم من صراع وعراك علني حول الزعامة والبروز الإعلامي بما في ذلك من مزاجيّة ونرجسيّة وحبّ الذات.
المعارضة السياسيّة في تونس تبدو وكأنّها «فاقدة» لزمام المبادرة فهي أضحت بمثابة قوى احتجاج شعبي يكون مداره الأساسي الشارع وتوظيف «الغضب الشعبي» لا البرامج و»المقترحات القويّة» المنتقدة للسلطة والمقدّمة للبدائل ، وربّما لهذا السبب نرى «أحزاب المعارضة» تستجدّي الشارع لكي يحتجّ ويعتصم ويقطع الطرق وآليات الإنتاج بل إنّها ربّما تهتزّ فرحا ، لأنّها ترى في ذلك «الحراك الشعبي» مبتغاها في الحضور للمساندة والدعم والتشجيع ومن ثمّ الظهور الإعلامي وممارسة ضغط مّا على السلطة القائمة.
لم تعد «المعارضة السياسيّة» بهذا المعنى ، والأدلّة على ذلك كثيرة ( الحوض المنجمي ، رادس الملاّحة، 9 أفريل...) تُنافس السلطة بل هي أضحت تُنافس فعاليات المجتمع المدني وأساسا النقابات المهنيّة ، ليس معنى هذا أنّه ليس من واجب المعارضة تبنّي المطالب الاجتماعيّة بل معنى ذلك أنّها تتحوّل – أي المعارضة»- من طابعها السياسي ، المبني على البرامج والتصوّرات والبدائل- إلى طابع آخر هو الطابع «النقابي» الّذي فيه ضرورة اشتراطات ومضامين في التفاوض وراهنيّة تحقيق المكاسب الآنيّة للعمّال والشغالين.
إنّ انزياح المعارضة من الواجهة السياسيّة (إعداد بديل للسلطة الموجودة) إلى واجهة المطلبيّة الآنيّة (مكاسب ومنافع اجتماعيّة ومهنيّة) يُخفّض كثيرا من قيمة ومنزلة تلك المعارضة ويدفع بها إلى سياق آخر لا أفق سياسيا له.
وضع «المعارضة السياسيّة» في تونس ، ما بعد الثورة ، ملغوم وفيه الكثير من الأسئلة المحيّرة إلى درجة ربّما قد يتساءل المرء:هل نحن إزاء «معارضة شبح» تتحرّك في كلّ الأرجاء والأنحاء عن قصد أو دونه بحثا عن ما به تُسقط الحكومة ( ربّما لهذا السبب وجدت السلطة الأرضيّة ملائمة لدفع بمسألة المؤامرة) عوضا عن أن تهتمّ بترتيب شؤونها وهيكلة نفسها والتركيز على المهمّة الأساسيّة المنوطة بعهدتها في نقد أداء السلطة وإعداد بديل شعبي ومضموني عنها.
من المؤكّد أنّ «المعارضة» بأحزابها المشتّتة وغير المهيكلة والجراح الّتي نالتها من «انتخابات 23 أكتوبر 2011» بقيت عاجزة عن مسك «أجندة تحرّك وعمل واضحة» على الأقل إلى حدّ الآن ، ولكن الأسئلة تظلّ كثيفة: هل تقدر «المعارضة» على تحقيق الاستفاقة المأمولة من «صدمة انتصار حركة النهضة»؟ هل تستوعب أسباب افتقارها إلى السند الجماهيري الواسع؟ هل باستطاعتها «قهر سلطان الزعامة» و«الحسابات الشخصيّة الضيّقة» و«التغلّب» على واقع التشتّت الّذي وقف خلف هزيمتها في الانتخابات الأخيرة؟. هل تتمكّن من تأسيس نفسها من جديد والتخلّص من عقدتي «العاصمة والمدن الكبرى» و»النخبويّة»؟ والأهم من ذلك: هل ما زال لهذه «المعارضة السياسيّة» متّسع من الوقت للتحضير والإعداد الجيّد للانتخابات القادمة وتجنّب «صدمة جديدة»؟. «الشروق» فتحت ملف «واقع المعارضة السياسيّة في تونس».