كشف تقرير اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول التجاوزات المسجلة بداية من 17 ديسمبر 2010 عن القائمة الأخيرة للوفيات وللجرحى وأماط اللثام عن حقائق كثر الحديث حولها منذ أكثر من عام. واعتمد التقرير على تدرج زمني وعلى توزيع جغرافي دقيقين. بعد حوالي عام وشهر من بداية العمل، أصدرت لجنة تقصي الحقائق حول التجاوزات تقريرها الذي طال انتظاره. وقال السيد توفيق بودربالة رئيس اللجنة في لقاء اعلامي أمس بالعاصمة ان التقرير جاء بعد عمل دقيق ومجهودات كبرى من قبل كافة أعضاء اللجنة بكل استقلالية وحياد وموضوعية وسرية رغم ما أحاط بعملهم من نقائص مادية وقانونية (غياب الحصانة) ومن اتهامات مختلفة. وأضاف أن أعضاء اللجنة زاروا كامل ولايات الجمهورية وكافة عائلات المتوفين والمصابين وأغلب سجون البلاد ومستشفياتها ومحاكمها ومؤسساتها العمومية . وقد أخذت اللجنة بعين الاعتبار الفترة الممتدة ما بين 17 ديسمبر 2010 و23 أكتوبر 2011 لإدراج حالات الوفيات والإصابات صلب برنامج عملها، وكان الاختيار على موعد 23 أكتوبر (تاريخ الانتخابات) كآخر اجل لتقديم الملفات للجنة باعتباره كان مُنطلقا لبداية استتباب الامن نسبيا في البلاد على حد قول بودربالة. وأجمع أعضاء اللجنة أمام الاعلاميين أنهم كانوا عرضة لضغوطات عديدة من حيث كثرة الملفات وضيق الوقت ورغبة عدة أطراف في تقديم ملفاتها بعد تاريخ 23 أكتوبر . الحوض المنجمي أكد التقرير في مطلعه أن الثورة التونسية انطلقت ضمن سياقات متعددة لعل أهمها حالة الكبت التي كانت مفروضة من حكم بن علي على الشعب وعلى النخب وعجز الدولة في تلك السنوات عن تحقيق التكافؤ بين الجهات والافراد وعن مراقبة التجاوزات. ولم يمر التقرير دون ان يشير إلى دور أحداث الحوض المنجمي وبن قردان في تراكمات ما قبل 17 ديسمبر وكذلك إلى الدور السلبي للاعلام في تلك الاحداث (تعتيم تام). مهد الثورة ..ومنطلقها بهذا الوصف تحدث التقرير عن ولاية سيدي بوزيد وعن حادثة البوعزيزي التي تبعتها مظاهرات واحتجاجات قابلها قمع أمني كبير تسبب في سقوط 6 شهداء بمنزل بوزيان والرقاب، في الوقت الذي كان فيه بن علي يقضي عطلة بالخارج قبل أن يعود ويأذن بمزيد مواجهة المتظاهرين الذين نعتهم بالارهابيين «بكل حزم» وهو ما حصل فعلا.وبعد ذلك سرى فتيل الاحداث إلى ولاية القصرين التي وصفها التقرير ب«منطلق الثورة»، وقوبل المتظاهرون بنفس القمع البوليسي وخاصة بالرصاص الحي وبالقنابل المسيلة للدموع فزاد عدد القتلى والجرحى وزاد الوضع تأزما. وسجل التقرير في هذا السياق منع المصابين من تلقي الاسعافات بالمستشفيات ومنع المواطنين من دفن موتاهم علاوة على اهانتهم بالعنف اللفظي والمعنوي على غرار حادثة حمام النساء بحي الزهوربالقصرين. ثم وصف التقرير الوضع في بقية أنحاء البلاد وما شهده من غضب شعبي ومن قمع بالقوة المفرطة أسفر عن سقوط مزيد من القتلى والجرحى وعن حرق مقرات أمنية ومؤسسات عمومية. ورغم الخطابات التي توجه بها بن علي ورغم انتشار الجيش إلى جانب الامن وتفعيل لجنة الطوارئ إلا أن الوضع خرج عن السيطرة تماما بتقدم الايام إلى حين حلول يوم 14 جانفي. بين قصر قرطاج والمطار وتحدث التقرير عن يوم 14 جانفي وعما شهدته العاصمة من أحداث في شارع بورقيبة وبوزارة الداخلية والتي بلغ صداها إلى القصر الرئاسي وأثرت على مجريات الاحداث هناك. وقال التقرير ان مدير الامن الرئاسي آنذاك علي السرياطي أهم «محرك» لتلك الاحداث حيث كان وراء اتخاذ بن علي قرار سفر عائلته إلى جدة في مرحلة أولى قبل ان يوافق (بن علي) على مرافقتهم بعد أن بلغته اخبار عن حصول تمرد في مطار تونسقرطاج دون ان يتضح له ما حصل بالضبط. ويضيف التقرير ان الموكب الرئاسي توجه إلى مطار العوينة العسكري (وليس المطار الرئاسي ) حيث كانت توجد الطائرة الرئاسية، وتزامن ذلك مع هبوط طائرات عمودية هناك مما زاد في ادخال حالة من الارتباك على السرياطي الذي حاول دفع الرئيس السابق للمغادرة. وتزامن ذلك أيضا مع تواجد وحدات تابعة لأربع فرق هي حسب التقرير من أفضل ما يوجد في تونس من فرق أمنية وعسكرية (القوات الخاصة التابعة لجيش البر – أعوان المرافقة التابعين للامن الرئاسي – الوحدات الخاصة للحرس الوطني – فرقة مكافحة الارهاب التابعة لوحدات التدخل)، وكان الوضع يهدد بالانفجار في أية لحظة حسب التقرير لان خطر التصادم بين هذه الوحدات كان قائما بقوة . وتحدث التقرير بعد ذلك عن كيفية انتقال السلطة إلى محمد الغنوشي ومن بعده إلى فؤاد المبزع تماما كما يعرفه كل التونسيين حسب الشهادات التي ادلى بها المسؤولون سابقا . رعب صنعته قناة تلفزية خاصة وصف التقرير ما حصل أيام 15 و16 و17 جانفي 2011 ب«الأيام السوداء» سُجلت خلالها حالات وفاة وإصابات خطيرة بالرصاص. وقال التقرير إن بعض وسائل الاعلام خاصة المرئية وعلى وجه التحديد قناة تلفزية خاصة (لم يسمها التقرير لكن التونسيين يعرفونها جيدا) لعبت دورا سلبيا بسبب ما ادخلته من اضطراب على جهازي الامن والجيش من ناحية والهلع والرعب الذي أدخلته في صفوف المواطنين من ناحية أخرى. وأدت الاشاعات التي بثتها هذه القناة (وجود مسلحين على متن سيارات مكتراة وسيارات اسعاف) إلى استهداف هذه من قبل قوات الامن والجيش ولجان حماية الاحياء مما تسبب في سقوط ضحايا واصابة كثيرين خاصة بالعاصمة والمدن الساحلية . ماذا حصل في السجون؟ ورد في التقرير أن عديد السجون شهدت انفلاتا كبيرا ادى إلى فرار اكثر من 10 آلاف سجين إلى جانب وفاة آخرين نتيجة الاحتراق والاختناق والاصابة بالرصاص . وتوصلت اللجنة – حسب تقريرها – إلى فرضيتين : إما أن تكون تلك الاضطرابات نتيجة مؤامرة مدبرة من عناصر النظام السابق الموجودين في مواقع المسؤولية أوعن تمرد السجناء أنفسهم بسبب الظروف السيئة التي يعيشونها داخل السجن . لكن اللجنة لم تتوصل إلى الحسم في سبيل احدى الفرضيتين وكان عليها أن تبذل كل ما في وسعها للكشف عن حوادث السجون التي لا تزال تشغل التونسيين ، وليس الاكتفاء بفرضيتين فحسب وهوما يجعل عملها منقوصا من هذه الناحية .مسؤولية الرئيس والامن الرئاسي والداخلية.. قال التقرير ان تحديد المسؤوليات الفردية في ما حصل هوأساسا مهمة القضاء بينما حاولت اللجنة تحديد المسؤوليات الجماعية (أو المؤسساتية ) وهي في الواقع مسؤولية النظام بأكمله بدءا بمؤسسة رئاسة الجمهورية وصولا إلى مختلف الوزارات المتداخلة مثل الداخلية والدفاع والصحة والاعلام . فرئيس الجمهورية مثلا تتضح من ردود أفعاله خلال خطاباته الثلاثة التي ألقاها واعلانه في بداية الاحداث التصدي للمتظاهرين بكل حزم وعدم تراجعه عن ذلك القرار إلا يوم 13 جانفي عندما قال «يزي من الكرطوش الحي». وبالنسبة إلى جهاز الامن الرئاسي قال التقرير انه لم يتضح للجنة أية مساهمة لأعوانه في أعمال القمع كما لم يثبت انهم قاموا باطلاق الرصاص بأي شكل من الاشكال خلال الاحتجاجات. وبالنسبة إلى وزارة الداخلية لم يتضح للجنة ورود تعليمات من قاعة العمليات المركزية من القيادات الامنية العليا أومن الوزير باطلاق النار على المتظاهرين، كما لم يتضح ورود تعليمات بوقف اطلاق الناررغم تتالي سقوط الضحايا لكن ذلك لا ينفي استعمال الهواتف القارة أو النقالة لإسداء هذه التعليمات ولم تتوصل اللجنة إلى اثبات ذلك لكن في رأيها ان اطلاق النار لم يتم دون أوامر وتعليمات صريحة من القيادات الامنية العليا . واكتشفت اللجنة أن اطلاق النار تم أحيانا بغاية القتل واحيانا أخرى أثناء دفاع الاعوان عن أنفسهم وعن مقراتهم وعن اسلحتهم فضلا عن حالة الارتباك التي أصابتهم وعدم بلوغ أوامر دقيقة لهم . ...والدفاع والصحة والاعلام وفي ما يتعلق بوزارة الدفاع، أشار التقرير إلى الدور الذي لعبه الجيش قبل 14 جانفي وبعده في حماية المؤسسات والمناطق الاستراتيجية وفرض حالة الطوارئ وحظر الجولان وسد الفراغ الامني . غير ان ذلك لا ينفي مسؤولية الجيش في حصول وفيات واصابات بالرصاص أثناء فرض مقتضيات حالة الطوارئ والتصدي لأعمال النهب والحرق والتخريب وأيضا نتيجة أخطاء فردية عند التدخل وعدم التقيد بالتعليمات عند اطلاق النار. وحمل التقرير المسؤولية لوزارة الصحة من خلال عدم توفير الاسعاف اللازم للضحايا أثناء الثورة وخاصة التجهيزات اللازمة (سيارات اسعاف – تجهيز المستشفيات – الاطار الطبي) وعدم توفير العناية اللازمة بمصابي الثورة فيما بعد على الصعيدين الصحي والنفسي). ولم يغفل التقرير عن مسؤولية وزارة الاعلام (سابقا) من حيث اجبار وسائل الاعلام على التعتيم أيام الثورة والسعي إلى حد مساء 14 جانفي إلى تلميع صورة بن علي ونظامه. ضحايا وليسوا شهداء قال توفيق بودربالة إن قائمة الوفيات (338 حالة) الواردة بالتقرير ليست بالضرورة القائمة النهائية للشهداء. فهذه القائمة ستعتمدها اللجنة الموجودة صلب الهيئة العليا لحقوق الانسان والحريات الاساسية (رئيسها نور الدين حشاد) هي التي ستتولى ضبط القائمة النهائية للشهداء حسب شروط معينة ضبطها مرسوم. والامر نفسه ينطبق على قائمة الجرحى الواردة بالتقرير ( 2147 جريحا).